بيان الخمسة والخمسين عالما.





من القبيح -فكريا على الأقل- أن تُجادل أحدهم في حقيقة ضوء النهار، وليس جميلا أن ينوء بك المراء لإقناع أحدهم بأن الشتاءَ باردٌ والصيف حار. أمورٌ مسلمٌ بها يتجاوزها كل عاقل حصيف. ومع هذا يبقى في النفس الإنسانية شيءٌ من طباعها لا تهجره ولا تخذله، وبالأخص إن كان الخصمُ يبثُ الداء تحت ستارِ الجهلِ ويتنقلُ بين المجالسِ لم يستُر كذبه ولم يُضمر كيده.
وقف خمسة وخمسون عالما وقفةً أوجبتها عليهم عقيدة المسلم أخو المسلم ومبدأ النصح والتوجيه وباعث الإرشاد والهُدى وأصدروا بيانا واضحا جليا فصيحا، يصفون بين طياته عدوا روسياً ينهشُ أخا سورياً، يشدون من أزر الأخ إذ تكالبت عليه الأمم.

فهمَ المعنى كما هو من كان يفهمُ لغة العرب وينظر لواقعٍ دموي مرير زاد عن أربع سنوات وسبعة أشهرٍ ما انفكَ فيه المظلوم محترقا تحت نار الظالم لا تلبثُ وأن تُمسك بأطراف ثياب من حوله. حزبٌ آخر غالوا في التأويل والتفسير وتحوير الكلم عن موضعه فأحالوا البيان فتوى، والوضوح إبهاما، والجلاء إضمارا، والفَصْح عياً، جعلوا من بيان العلماء دعوةً وتحريضا للغرِّ من الشباب ثم قيدوه تعسفا بجهاد الأفغان في أعوام ما تلت 1979، هذا الحزب الآخر وموقفه المبطنُ من بيان العلماء عندي على صنفين: فصنفٌ لا يعلم وصنف لم يقرأ، فالأول لم يطّلع على جهاد الأفغان إلا ما تناقلته ألسنةُ العجائز فما تفتأ تُردده رغم جلاء الحقيقة، الحقيقةُ التي تُعلن عن نفسها أن غالب المؤسسة الدينية في جهاد أفغانستان هو الكيان الرسمي -ربما الوحيد- الذي تردد في إرسال الشباب إلى ميادين المعركة وكانت لا تراه فرضَ عينٍ، وقد فصّل في هذا الشيخ "سفر الحوالي" في محاضرته الشهيرة "مفهوم الجهاد" ويمكن لطالب الحق الرجوع إليها على موقعه. الشيخ "سلمان العودة" أنهكه التبيين والتوضيح عن موقفه آنذاك وأنه كان عدوا للتحريض وإرسال البعثات من الشباب وكان يرى أن الأفغان ينقصهم المال، يقول ما نصه "كنت ولا زلتُ مؤيداً لقضية أفغانستان، وأدعو إلى التبرع لأفغانستان"، بل هناك شخصيات دولية بارزة منهم الشيخ "القرضاوي" الذي جادل بأنه يكفي دعم الأفغان ماديا، ولِحسن الترابي موقفا شبيها بهذا. هذا هو الواقع وهذا هو ضوء النهار الذي يراه الكفيف. أما الثاني الذي لا يقرأ، فهم محبو العجلة الذين اكتفوا بأول خبر تلقوه وأول تصريح سمعوه، لم يُجهدوا أنفسهم في قراءة البيان كما أجهدوها في تحليل الهباء، ولم يُريحوا أنفسهم من الجدال كما أراحوها عن الاطلاع، وما هم إلا من أتباع الهوى والذي وصفهم الألباني رحمه الله (طالب الحق يكفيه الدليل، وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل، الجاهل يُعلَّم، وصاحب الهوى ليس لنا عليه سبيل). وبعدُ هذا، فمن أصرّ على التلويح بكلمة "التحريض" فهو كمن أراد أن يخصي أسدا رابضا منذ سنوات، آثر الهدوء فلا تزعجه في مربضه فيثور عليك ولن تقوى الامتناع، ومن أراد إسكات الحلوق فلا يحومنَّ تالياَ حول حمى حرية التعبير. 

هديل الهشلمون، لاتصالحي .







عندما كانت العرب عربا، والرجال رجالا، يصدح الحق رغم أنف الطغاة، يُخرجُ الذل أعاصير هوجاء، تحتجبُ الشمسُ من آثارِ النقع فوق الرؤوس، تسوَد الصفراء، يرتج الكون غِبطة لغضبة الحق، كان هذا عندما كان الحق حقا في ذاته لا انعكاسا لضمائر تسجد للدرهم والدينار، وتفاهات تُرفع هنا وهناك. بالأمس البعيد في عصر الرجعية البريئة عن كل دنس، المُطهرة من كل عيب، كانت العِزة تحلفُ بكل روحٍ مسلمة، وتسجدُ ذاعنةً  لكل جبهة ساجدة، كان الإباء يسرحُ في مراعي الشرف ملتفةً حول الأرض يُلامس عنان السماء، كانت كلمةَ مظلومٍ تُدوي فوق منبر في صحراء نائية فتجاوبها أمواج المحيطات وشهب الشياطين. اليوم، وآهٍ من اليوم، نامَ الصغار تحت أقدام الكبار، جُردت العذراء أمام أعين البلهاء، طُمست الأنفة فوق جماجم الأولياء، أُسدل الستار وصفَّق المسلمون، فقد قُتلت "هديل الهشلمون"، برصاصة باردة، ليست بأكثر برودة من دماء الحمقى والمغفلين، وبابتسامة صهيونية ساخرة، سالت دماء النزاهة عن أن تمسها يد النجاسة. أيا هديل، أغمضت عيناك كمحارتين، وسُلت روحك كأنفاس النسيم، جُعلت الجنة مثواك، والكوثر مسقاكِ، غادرت ونحن في أوكار الذل نمرح ونفرح، وعلى قرون الشيطان نكتئب ونغتم. 

 يا ملائكة الرحمة ويا أرباب العفاريت، هديلٌ، أليست بعربية! فأين زعماء القومية العربية؟ هديلٌ، أليست بفتاة! فأين مدعو حقوق المرأة؟ هديلٌ، أليست مسلمة! فأين دُمى المؤتمر الإسلامي؟ هديلٌ، أليست بشرية! فأين كهنة حقوق الإنسان ومشعوذي المساواة واللاتمييز؟ ارتفع الصراخ وتنادت النوادي وتوالت الهتافات، فعاد الصدى بالجواب البائس، هي عفيفة شريفة فلسطينية عربية مسلمة أبية، فماذا تريدون؟ وكأني بأبواق الصهيونية وهي تسخر من كل مسلم، وتشمئز من كل عربي. ياربُ إن القلوب تطرق حناجر الصدور، والغضب يملأ الكون، فاجعلها ثورة تُحيي العظام الرميم، وتُنبت مردة الحق لسحق أوهام الباطل. في فلسطين وعند قبور الشهداء وتحت دماء "هديل"، تظهر كلمات الطبيعة بأننا لا نستحق العيش والتباهي بالأمجاد والأحساب، فما نحن إلا قطيعٌ نتبعُ أكثرنا هرما وأعظمنا ضعفا. أيا هديل، لكِ خالق البريات، ومزلزل الجبال العظيمات، ومحيي الأنفس الميتات. ولعلك تُقرئين "الدرة" منا السلام، وأعلميه أننا ما زلنا نتساءل سؤال الوجود ذاته "وين الملايين، الشعب العربي وين؟".