وهمُ الجاهلين







يُقال أن نقشا على جوازِ السفر الأمريكي يقول " حامل هذا الجواز سنحرك من أجله أسطولا"، لا أعلم عن صدق هذا فجُل رفاقي عروبي المولد والمنشأ، فعلى فرض صحته، فأنا أكيد من أنه شعارٌ براق انتقائي يعملُ في تجييش النفس أكثر من وقعه في الواقع، مثله كمثل الديموقراطية المشوهة أو السماحة الانتقائية أو التلطُّف الخبيث. حادثٌ من حوادث التاريخ كفيلٌ بكشفِ السترِ الحاجزةِ عن ذاك الوجه البائس والقناع المستهلك، وشقاوةٌ طفل مدلل تُجلي عما يختبئ تحت المنضدة. تعالوا معي لنرى هل سيكون خلف أروقة البيت الأبيض للدم الأمريكي من ثمنٍ فعلا ؟ وهل هناك ديموقراطية حقة في بلاد الهنود الحمر؟ 

في عام ١٩٦٧ وفي حُمى وطيسِ حربِ اسرائيل ضد العرب والنكسة المشؤومة، وأثناء ما كان عبد الناصر تاركا طائراته صيدا سهلا للوهم الإسرائيلي، اقتربت من شواطئ الإسكندرية سفينة تجسس أمريكية تدعى "USS" ليبيرتي، مطمئنة آمنة وهي ترى حليفها الأصغر يمارس ألعابه المفضلة فوق رمال سيناء، رافعة علمها ومُعلنةً عن نفسها بأنها "الأمريكية" التي دانت لها بحار الأرض من أقصاها لأقصاها. كان الطاقم يتناول غداءه الشهي ويتلو صلاة الشكر، إذ بطائراتٍ تحملُ "نجمة سليمان" الزرقاء تحوم حولهم، وتتطقسُ طقوسهم، حامت وجالت، وفي تشكيل هجومي انهالت عليهم القذائف والرصاصات، دوي الانفجارات أشد من دوي الغضب، تَخرّق البدن، وانفجرت خزانات الوقود، تناثرت الأشلاء، طغت الدماء، تزلزلت السفينة، انعزل الطاقم، ساد الصمت، بقيت مناظر الدماء، ورائحة الشواء. موجةٌ هجومية أخرى تأكل مقدمة السفينة، تشْتَعل النيران، تتطاير الرؤوس، تلحقها الأيدي والأقدام، لم يبق إلا الغرق، تُبحر الزوارق اليهودية، تقترب من السفينة، إسرائيل عازمة على إغراق حاضنتها، ينطلق الطوربيد، يبحث عن السفينة، أصابها في مقتل، يفغرُ البحر فمه، يصمت الرعب، يتفاجأ ساسة البيت الأبيض، ارتسمت علامة الاستفهام فوق رأس الرئيس "ريتشارد نيكسون"، يأتي الأمر من إسرائيل، أسكتوا الإعلام فهي مجرد غلطة، إن كنت تريد الفوز برئاسةٍ أمريكيةٍ أخرى. ماتت الديموقراطية على ولادة الرأس مالية، والثمن جسدُ خمسة وثلاثين جنديا على السفينة. هنا اصطدمت الحريات السياسية بسلطان رأس المال فعصف بها وأثبت أنها "وهم الجاهلين"، أُغلقت القضية وزادت المعونات الأمريكية لإسرائيل بشكل خيالي، هذه هي حقيقة الرأسمالية عندما تُوهم الجميع أن للفرد حريته، بينما هي من تضع أمامه الخيار الذي يجب عليه أن يختاره من غير وعي، لم تُحرك أمريكا اسطولا لحماية أفرادها، وفاز نيكسون بولاية أخرى لم تدوم.

مسجد معاذ بن جبل، موقعه وحقيقته.








تناقلت وسائل التواصل مؤخرا خبرا عن مسجدٍ في منطقة "سدوان" ببللسمر وزعم صاحب الخبر أن هذا المسجد يعود بناؤه للصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهذا من غريب الأخبار الواردة، فبيانا للحق عُدت لبعض كتب التراث التي ذكرت ودرست جغرافية وآثار تلك المنطقة، فأوردتها هنا جامعا لبعضها، لا انتقاصا من مكان، ولا ازدراءً بسُكان، ولكنها حقيقة تاريخية تفرض نفسها فرضا.

في كتاب الهمداني المتوفى سنة (٣٣٤هـ) المسمى (صفة جزيرة العرب) لم يذكر مسجدا لمعاذ بن جبل إلا في قوله عند صفحة ٥٤ (طبعة بريل) (أول مدن اليمن التي على سمتِ نجدِها هي (الجَنَدُ) من أرض السكاسك، ومسجده يُعد من المساجد الشريفة كان اختطه معاذ بن جبل ولا يزال به مجاورة وإليه زوار)
ثم ذكر في صفحة ١٢١ (ثم الرهوة رهوة بني قاعد من العذميين من بلاد شهر قريةٌ شعفية على رأسٍ من السراة ثم سدوان وادٍ فيه قرية يُقال لها (رحب) لبني مالك بن شهر، تنومة وادٍ فيه ستون قرية أسفله لبني يسار وأعلاه لبالحارث بن شهر)، ولم يذكر بها مسجدا لمعاذ رضي الله عنه، فلو كان بها لذكره كما ذكره عند حديثه لمدينة (الجند)، أو لشهرته ومكانته لو كان موجودا
وفي كتاب المسالك والممالك للبكري الأندلسي ذكر: (والطريق من صنعاء إلى ذمار "جنوب صنعاء" وهما مرحلتان إلى قرية تدعى جردان، وعلى هذا الطريق وادٍ معروف عندهم وأكثر أشجاره الأثل والطلح وفي هذه الناحية صنمٌ كان قبل ظهور الإسلام، ودون ذمار مساجد لأصحاب النبي  ﷺ منها مسجد معاذ بن جبل وأهل اليمن يعظمونه ويأتونه) ولم يذكر غيره في كتابه
وأيضا في معجم البلدان للحموي قال : ( الجَنَدُ: بها مسجد بناه معاذ بن جبل وبين الجند وصنعاء ٥٨ فرسخاً).
والخُلاصة ألا صحة لما ذُكر أخيرا من أن مسجدا لمعاذ بن جبل في قرية (رحب) بسدوان في منطقة بللسمر. وإنما هو في (الجند) في أرض اليمن الحالية وهو المشهور والمعلوم. والله أعلم.

كتبه
بندر بن علي الأسمري. (٢١ ربيع الآخر ١٤٣٧).