التعايش








شجرةُ الأكاسيا وقعت اتفاقا مع نوعٍ من النمل، كثيرَ البنود وافر العدل، من نتائجه أن يمنح النملُ الشجرةَ الحمايةَ من كل متطفل ينهشُ  أوراقها أو يكسر أغصانها إما بقرصةٍ أو التهام، وتمنحُ الشجرةُ النملَ المسكنَ الهادئ والغذاءَ القريب والظلَ الوارف، وهكذا تم التعايش الفطري في أقل مستويات إدراكه بين حزبين من أحزاب الوجود الطبيعي. ومع مرور ملايين القرون على توقيع الاتفاقية فما زالت شجرة الأكاسيا هي شجرة الأكاسيا والنمل هو النمل، فلم تمنح الإتفاقية الموقعين طرائقَ للتقدم وبناء حضارة ولو كانت بسيطة. وهذا مِفصلُ الأمر وكاشف الوهمِ بين كيان الطبيعة ومجتمع البشر، أغفل عنه رافعو رايات التعايش.
التعايش لا يعني أن أنصهر وسط كأسك وتنصهر أنت وسط كأسي، فلا يبقى من حضورنا إلا هشيماً من وجودٍ تذروه الريح على أرض صلداء، فلا نحن استبقينا نسمة من حياة ولا أوجدنا كيانا من حضور. التعايش هو استسلام من حيث أنه حجاب أضربُ به حول عينيّ مُراءاةً للآخر، وهو تكافلٌ من حيث أنه سُلَّمٌ درجاته من أفكاري وأفكارك. الدرجة لا تُزاحم الدرجة، بل لاتصل إلى درجة إلا عن طريق درجة. فإن أخذنا بأطراف التنظير والأماني وقفَّينا لِسُنَّة مغروسةٍ وفطرةٍ مبذورةٍ أفسدنا من حيث نريد أن نُصلح، ووأدنا من حيث نريد أن نُعتق. وبالجوار من هذا، هناك التدافع الذي لا يُنافي أن نركب كلنا في سفينة واحدة، يُجريها ذلك التدافع لمسربٍ واحدٍ اخترناه ليأخذنا من بين أطواد البحر الهائجة لنبلغ به ذلك المستقر المُتفق عليه. فهو بمعناه السامي أن تُدافَع الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، والحجة بالحجة، بما يُظهر تنظيمها وتصريفها ويكشف ما يحوطها من غموض، لا تَدافع الأقدام ومناكفة الأقران من أجل التدافع لذاته أو المناكفة لذاتها، فكم رأينا من عقول جمدت عند تصيد الزلات، وانتظار الهفوات، فلا هي سارت إلى خير ولا هي قعدت عن سوء، حتى أتاها اليقين وهي بين نزع وتنازع. 
لو أن الزمان بعقل بشرٍ متملقٍ لحاول الإصلاح ما بين ليلٍ ونهار، يخلعُ عنهما تدافعهما ويجعل منهما شيئا واحد هو الغسق، نصفه ظلام ونصفه نور، ثم يجعله أمرا مستداما لا تقلُّب فيه، فهو في عقله قد جعل الإثنين واحدا، والمتنافرين متحدين، وغفل عن إفساده المهلك، فلم يبقَ زمانا للتكسب وآخر للسبات، فما الاجتماع البشري إلا جسدٌ قائمٌ يمشي على اثنتين، تقف الواحدة لتتحرك الأخرى التي ستقف لتتحرك تلك الواحدة، فلابد من تقدُّمِ طائفةً على حساب تأخرِ أخرى، فإن اكتفينا بواحدة فقد استبدلنا القفز المقلق بالسير الهادئ، وستكون السقطات كليلٍ بهيم يلمع فيه شهاب خجول هو تلك القفزة. فسبحان الذي أحوجنا إلى ما في يدِ غيرنا وأحوج غيرنا إلى مافي أيدينا، فلا نُعطي إلا بمقدار ما نأخذ، ولا نأخذ أكثر مما نعطي فيتم البيع الحلال العدل من غير ربا أو زيادة ماحقة نازعة، فإن الحق يأبى أن يسلك مسالك الأهواء وإلا لبَطُل. 


أرانب حمدامان مالجامي




عندما أراد أهالي (مالجامي) الاستئناس والحلول وأحياء تلك البلاد المقفرة حيث أنهم أول من سكن بها وأول من وطئها من بني البشر، لم يكن بها من الثدييات إلا حيوان الكانغر، ولما كانوا قوما يعشقون الصيد وبطونهم لا تأكل إلا من لحم صيدهم وسهامهم لا تكاد تخطيء الفريسة فإنهم تذكروا ما كانت تجلب لهم الأرانب من سعادة وهناء وفرصة في ممارسة ما يحبون من لهوٍ وصيدٍ في بلادهم القديمة، فاستورد لهم (حمدامان) وهو أحد كبرائهم وتجارهم أحد عشر زوجا من الأرانب وأطلقها لتتكاثر في الطبيعة فتكون لها (مالجامي) موطنا طبيعيا مكان موطنها السابق، جلبها وابتنى له أيضا مزرعة يكِلُّ فيها الجواد، ويتوهُ فيها السيل، حفرَ آبارها واستخرج ماءها وأسال عيونها وأنشأ بها أشجارا من الفواكه والخضراوات، حتى أصبحت المزرعةُ منبرا للتفاخر والتباهي فحلت من قلبه مكانا من دون سائر النعيم، جلبت المزرعة لحمدامان هناء الروح وصحة الجسد وكمال النظر حتى إذا طرحت ثمارها أخذ منها أكثر من حاجته ونثر ما يبقى لأرانبه التي جلبها وإن كان في سهول (مالجامي) ما يكفيها ويزيد، ولكنه كان يريد أن يُشعر الأرانب بأنه متفضلٌ عليها.
ولمّا يكنْ لهذه الأرانب أعداء طبيعيون فقد تكاثرت وتناسلت بصورة مذهلة وازداد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان يُنتظر ويُأمَّل فغصت بها السهول والوديان والجبال وكانت النتيجة سيئة للغاية. أضحت (مالجامي) عاجزة تحت وطئة حُمى تلك الأرانب، فغربت شمس الأرض الحُرة وسطعت شمس أرانب (حمدامان مالجامي) المُحرقة المُهلكة الجشعة، أحرقت الأخضر وأفنت الطبيعة بكثرتها التي رجحت بكفة ميزان الطبيعة، كان الأرنبُ يُجلي بعينيه النافذتين كلَّ معالم الاستغلال، بكُل ما في كرشهِ من القدرة على الجشع والنهم والهضم، فأمست أرانب (حمدامان مالجامي) في أمن يُتبجح به، وصحة يُتغطرس بها، فلا يُهدد عيشها إلا كِبر سنها، فلا هناك ذئبٌ يطاردها أو صقرٌ ينقَضُّ عليها أو لجامٌ يحِدُّ من اندفاعها سوى سهم صيادٍ هاوٍ يقتنص منها واحدا فيأتي مكانه عشرة.
طغت وتجبرت أرانب (حمدامان مالجامي) وأحدثت أضرارا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي فأصاب (حمدامان) الخوف على مزرعته من أرانبه فبنى حولها أسوارا مرتفعة ووضع الحواجز المنيعة، ومع ذلك فقد ثبت عدم فائدتها فقد استطاعت الأرانب تخطيها لتُحيل المزرعة الغنّاء قاعا صفصفا. لم يتمكن (حمدامان) ولا أهالي (مالجامي) أن يسيطروا على هذا الوحش الأرنب الذي صُنع بأيديهم وغُذِي بأموالهم وذاق حرية العيش تحت غطاء حبهم لزرع حيوانٍ جديد في بيئة جديدة نتيجة جهلهم بتوازن الطبيعة وقوانين الاستقرار. وهاهي الآن (مالجامي) يشهد خرابها وفقرها المدقع وصحراؤها الجرداء -التي لم تعد تكفي أرانب (حمدامان مالجامي) التي تعيش بها لوحدها- على أن بعض أفكار الهوى قد تكون مُهلكة مُحرقة مجدبة.

حلاوةُ المُحادثة.





جالستُهم على كُثبانٍ عُفْرٍ في ليالٍ قُمْرٍ، على رملةٍ احتضنتني بين جناجِنِ صدرها، يرمي الطرفُ لحظَهُ حتى يكلَّ على مشارفِ حدِّ الأُفق. لا هِمةَ لهُ للعودِ حسيرا فيركعُ تحت قرص الشمسِ يبتغي الإمهال، فلا يُبالي شموخُها بتذللـهِ. تنسَّلُّ كفي تُلامسُ لَببَ الرملِ لتحثوا منه وترفعه فيتساقط في الحِجرِ ذرة إثر ذرة إثر ذرة. لا يهبُّ عليه غيرُ الصمتِ، وهل يُنادغُ الروحَ غيرُ الصمتِ. تغيبُ الشموخُ وينهزمُ النور تحت جحافلِ كتائبِ الليل. عند الغسقِ، مع غبشِ المكان، تتهايل زخاتُ الشوقِ جميعُها، فتغشانا والنفسُ مُرددة: لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا. هذه اللحظةُ الفاصلةُ بين صحوة الحياة ونشوتها، هي الحد القاطع بين أكلِ الخبزِ اليابسِ بالتأوه وبين شُربِ المُدامِ العتيقِ بالغِبْطَة.

جالستُ أخوان الصفاء، وقناديل السماء، حدثتهم فحدثوني، أبثثتهم وأبثُّوني، في أخذٍ وعطاء، ونولٍ ووفاء، ثلجَ بهم صدري وبلَج، بعدما حرَّ وحرَج. أمتِعْ بهم من عقولٍ تتحدث، وألسنةٍ تُفصح. لذلك أقول إنَّ في حديثِ الكتبِ مُتعة أمتعُ منها تقليب الأفكار بملاعق الحديث. في المحادثةِ تلقيحٌ للعقول فتوضع القناعات على كفتي ميزانٍ فيُنظرُ الراجحُ والمرجوح. في المُحادثة تُقرعُ الحجةُ بالحجةٍ فتثلمُ هذه تلك وتلثمُ الأخرى أخرى. في المحادثة أنت المُحامي والموكِّلُ فكرةٌ، فإن كانت فكرةً عرجاء فلن يُقيمَها لسانٌ فصيح، وإن كانت عنتريساً فسيعقرها لسانٌ عَيِّ. كم قناعةٍ أخفت عقلَ صاحبها فلم يجلوه إلا حديث صاحبٍ وحوارُ مُخلص؟ في المحادثةِ ترويحُ القلبِ وتنفيسُ الضيق، جبلٌ يُرْخي سدوله بأنواعِ الهمومِ ليبتلي، فيغدو صدر الشمالي خُرمَ إبرةٍ يستحيلُ مع محادثةِ الأقرانِ فناءً يتطاير فيه ذلك الجبلُ كالعهن المنفوش. في المحادثةِ تنقيحٌ للأدبِ واصطفاءٌ لجميل ما حفظتَ من جميلِ ما قرأت. في الغديرِ يسقطُ السيل بِغَثِّهِ وسَمِينه فتُصيبُه اللَّوثة، ثم يُغادرُه الفاضلُ والثرُّ، فيقرُّ الماء وتترسب الشوائب ويغدو الماء صافيا، وكذلك العقلُ يتشربُ ما يُكتب في ألوف المجلدات، يذهبُ منها ما يذهب، ويبقى ما يُثبتُه الحديث وتتداوله في المجلس مع الأقران. أسمعُ ضجيجَ المؤلفين داخل الفؤاد، أحدُهم ترفعه أجنحتُه نحو العلاء، والآخر تَقصرُ به قوادمه فلا هو سما ولا هو دنا، فتُصيبنا لجلجلةٌ يخامرُها تعصب واقتناع، فقلَّما يُبْلِجُ الحق كمحادثة خبير. أسترجعُ ذاتي وهذا من حولي كُله لم يهنأ به خليفة ولم يرفلْ في نعيمه سلطان، كيف لا وعبد الملك بن مروان يقول: لم يبقَ من لذاتي إلا مُحادثةُ الإخوان في الليالي القُمرِ على الكثبانِ العُفرِ.