سُحقت اليابان
لترضخ بعد الهزيمة لكل شروط المُنتصر وبنود الاستسلام المفروض والجلوس تحت طاولة
الانكسار والموافقة على كل الشروط ولكنها رفضت ورغم هزيمتها الشروط التي تختصُ
بالتعليم واللغة والثقافة... قالت اليابان للغرب : نعم انتصرتم علينا عسكريا
واقتصاديا ولكن لنا تاريخنا الذي لن يُسلب، ولغتنا التي لن تُحرَّف، وثقافتنا التي
لن تُبدل.
هاتان قنبلتان
نوويتان أهلكتا حتى النور ولولاهما لما كان الاستسلام استسلاماً ولا النصرُ نصرا.
ولكنهما اصطدمتا بصخرة حُكومة شعارها الإباء والشرف و ترتكزُ فيه على شعبٍ يعتز
بقيمه ومعتقداته الثقافية والروحية وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي.
أما في المجتمعات
المهزوزة والشعوب المقهورة فيكفي أن يدخل بينهم مستشرق متخفي كأمثال (رينان) أو
(جولد تسيهر) أو (سنوك
هُرْخرونيه) ليغتصب ثوب العروبة ويُمزقَ حُجب المجتمع
المُغلق ويقلبَ موازين الفكر ويعكسَ اتجاهات المُعتقد و يُمَرغَ انتظام المعرفة،
ويجعل الوطن كله كقاربٍ محطم تأخذه نسائم البحر وتموج به قطرات الماء. وتبعاً لهذا
فَشِلَ الأغلبُ من العقلاء في كبح جِماح الشك الذي تسلل إلى لُبِّ الجهلاء فهشم
معه رأس العقيدة و مازج بين الحاجة والشهوة فأثمروا عن ظلمات بعضها فوق بعض وجهل
يُطبق على جهل.
هو الموت الثقافي
الذي سهل لهم انسلاخنا التام عن كل ثقافتنا المُكتسبة مع مرور القرون الماضية حتى
أمسينا كالمسخِ المُشوة لم نُبقي من ماضينا غِطاء ولا أخذنا من حاضرنا وِطاء، وعزز
من أزمتنا هذا الثراء الحكومي الفاحش الذي أنتج شبحا اقتصاديا تنخره سوسة الفساد
والعبث، فالمال مع موت الثقافة قتل مجتمعٍ ووأدُ أمّه.
الثقافة ليست
علماً نتعلمه بل هو محيط يحيط بنا وإطار كبير شامل نتحرك بداخله ويشمل أخلاقياتنا
وقيمنا الاجتماعية بل هو الحبل السري الذي يربطنا بالحياة، ومن الثقافة تتولد
الحضارة الذي يتركب منها التاريخ.
ذكر (مالك بن نبي)
أن أزمة العالم الإسلامي لم تكن أزمة وسائل وإنما أزمة أفكار، وعندما نتعمق في هذا
المعنى نجد أن الكثير من تضعضعنا في مجالات الكون هي فعلا أزمة أفكار تتعلقُ برقاب
النُخبة الثقافية في البلد، فالمثقف الأمين يجب عليه أن يدفع بدماء النشاط في جسد الفكرة
التي يحافظ عليها من المُضي في طريق اللهو والعبث الصبياني، فإن سارت الأفكار النخبوية
في هذا المسار العبثي فستجر معها الأجساد لذات العبث والمجون. وفي ذات السياق
اختصر (محمد الغزالي) هذه الفكرة في قوله (الفقر فقرُ أخلاق ومواهب، لا فقر أرزاق
وامكانيات) وهو هنا يعزف على ذات الوتر وذات النغمة، فنحن لا نريد شابا غنياً يركب
أغلى السيارات ويرمي النفايات في الطريق، ولا ساكن القصر يزدري عامل النظافة، ولا
حماراً يحمل الشهادة، ولا ببغاء تردد الشبهة، ولا مثقفا بيته السفارة، بل تكاملا
مجتمعيا أخلاقيا تربويا فكريا.
إن اتفقنا أننا
تحت اقدام مشكلة ثقافية فمن الغباء والمخاطرة في آن واحد أن نقتبس حلاً من خارج
محيط هذه الثقافة ثم نرجو لها الشفاء التام والصحة الكاملة، فلدينا امكانياتنا
وأفكارنا التي يجب تحريرها من أغلال التبعية المقيتة وسجون الاستهلاك الحيواني،
فتوماس مكولاي البريطاني يقول (إذا أردنا قهر بلدٍ فيجب أن نكسر عظام عموده الفقري
التي هي لغته وثقافته وتراثه الروحي)انتهى. فاللغة هي طريقُ الإيمان والثقافةُ
سلمٌ لصناعة التاريخ والتراث الروحي شعلةُ هذا كله. ثم يجب لأفكارنا أن تتحقق
ولثقافتنا أن تُفهم وبصورة عملية من غير شعارات مجلجلة ولوحات معلقة وأساطير
مزخرفة، فالفكرة إن لم تُمارَس والثقافة إن لم يُعمل بها فستبقى كأرض حطباء لا أثر
نافع ملموس.
وأخيرا أهمس في
أذن وزراء التعليم والثقافة: أن في البلد طرقا عدة ومسالك جمة وأغصان وارفة
وينابيع غزيرة فعليكم أن تكتشفوا طريقا نتصدر به مواكب الإنسانية ونسلك فيه مسالك
القدرة على مصارعة الحياة وأغصان تنجينا من ازدواجية المتناقضات وينابيع ترتقي بنا
لاختيار طريق الجدية في احترام النفس والأخذ بمعطيات العصر وبناء الثقافة الشخصية
والرفعة بالقناعة الفكرية المصاحبة للدليل والوثوق بدين نعلم شموليته ونعلم تاريخه
الناصع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اهمس لي