عندما يمارَسُ النقدُ بالأسلوب الهادف
والطريقة البناءة، متلمساً طريق الهدى والحق فإنه لا يجنح بعيدا عن الصراط
المستقيم والهدف النبيل واضعا نصب عينيه الصدق والأمانة والقسط والوفاء، طالبا
الكشفَ عن الخلل ومكامن العجز وأساليب الفشل بكافة ما يحتويه من إمكانيات وقدرات،
صافحا القصد عن إلغاء كل المنجزات المُقامة وساميا بذاته عن لغو الشيطان وإشكاليات
الردود على من نصّب نفسه لمحاربة الطريق القويم والرأي السديد، فهذا يُمثل ظاهرة
اجتماعية تُنبئُ عن مُجتمع مُتمدن يجمعُ مثقفين واعين وعقلاء نُجباء وعامة بُسطاء
تبحث عن الحقيقة الصائبة والرأي الموثوق.
وبناء على هذا فعند النظر في نُقاد القرار
العالي على مستوى الأوطان فإننا نجد أبناءً قدموا لسان الحق وقلم النزاهة ليصيغوا أفكار
التقويم ويكتبوا مقالات البِناء ومعطيات النجاح وذاك حسب طول نظرهم ومخزونهم الثقافي
وعلمهم بمُحدثات الأمور مع غوصهم في تجارب الماضي، فإن رأوا منكرا أنكروه أو خطأ
صوبوه ابتغاء النجاة من أمواجٍ عالية والأماني لبلوغ شواطئ الأمان. فمنهم حصيف
لَمَّاح وآخر ماهر أريب وثالث مُجتهد مُخطئ وكلهم التقوا عند سلامة المقصد ونقاء
السريرة. وعلى هذا فالإشكال الذي يُشكِل عقبة منيعة أمام هؤلاء من الاستمرار هو
التُهم التي تُكال عليهم من عموم الناس الذين لا تتجاوز نظراتهم أبعد من أنوفهم،
فالعامة يعتقدون في هؤلاء نكران النعيم وجحود الولي بالإضافة إلى وصفهم بالكُفر
بالأوطان، فالعامة دائما يجهلون ما وراء السُتر ولا يَمِيزون إلا ما ظهر على خشبة
المسرح. فيرشقون النبال تتلوها النبال على من ينتقد شيئا لا يرونه أو من يُحاول أن
يُبين لهم خيط الفجر من خيط الظلام. وعلى الطرف المُقابل في نقد القرار العالي نجد
من لا يُجيد إلا التملق والتصفيق، يتغنى ويرقص على أنغام كل ما يصدر سواءً كان شرا
أم خيرا، يفتقد إلى النظرة الناقدة والرأي السديد، أقام من نفسه مُهرجا يُقيم تَمثيليات
الموافقة ومسرحيات الولاء المُزيف. يأكل لُقمته بلسانه المُعوَج، ودخيلته
المُلتوية، ولأنه لا يملك إلا طبلا وعصا متوسطة الطول يُطبل بها فالناس يُقبلون
عليه أفواجا كالفراش يقترب من النار. وليته كان يكتفي من الشرور بهذا ولكنه يرى
أنه على طريق الوسطية وأنه من الحِكمة في هذا الوقت منحُ المزيد من التملق والتزلف
وأن من عادى وسطيته كان مُعاديا لسيادة الوطن خارجا على ولي الأمر دافعاً لعجلة
السُلطة إلى الهاوية.
لنعود وننظر في كلا الطرفين، ونُعمل عقولنا
ونشحذ إدراكنا عن أيهما أقرب للشارع الحكيم وأكثر حبا وولاءً للوطن وأيهما يُحافظ
على نعمةٍ نحن نرتع بين مِسْكها وكافورِها. فالمُوافق والمُطبل لا يحفظ للحق قيمة، ولا يلقي للعدل بالاً، ولا يرعى للإنسانية حُرمة، جُل همه ثمنٌ يقبضه ولقمةٌ يأكلها،
فالشر في قاموسه خير، والباطل حق، والغيُّ رشاد، والظلال هداية, لا رأيا فيُتّبع
ولا ضياءً فيُستنار ولا حِكمة فيُحتذا. أساطير اكتتبها أو خُرافة تُليت عليه
فحفظها ورددها أناء الليل وأطراف النهار، حَجب الطمع فؤاده وأعمى بصره وطمس على
قلبه. أما المُمَحصُ المُتقصي فسراجه النقل والعقل وسلاحه العلم والبحث، نَقَد
فقوّم، تَبصّر فأرشد، استنكر فأصلح. يصدح بالرأي الناقد فتتهشم جماجم الهوى، ويهتف
بالصدق فتنخفض رؤوس وتتحطم أصنام.
على مستوى الأفراد فالصديق من صَدَقك لا من
صدَّقك وذات البيان يتنزل على كل ناقدٍ صادق ومنقود يبتغي طريق السمو، ويبقى الهدف
الأسمى استمرار مسيرة الخير وبعثُ قوافل النماء، بتقويمِ كُل خلل واصلاح كل شرخٍ
وردم كل هُوة، فما كل قرار من بشرٍ يلزمُ أن يكون صحيحا، وما من أحدٍ أنجبته أمه
فوق النقد ولا تحته، ولن تصلح كينونة المُجتمع مالم يكن منه ناقد مُطلع أو مُقوم
مُحق.
العز بن عبد السلام أخذ بلسان الحق ووقف في
وجه كل ظلم وجور صدر من سلطان أو حاكم أو قاضي فذكره التاريخ على صفحاتٍ من نور،
وسطّر اسمه كعَلمٍ من أعلام الدنيا، وابن العلقمي طبّل للخلافة العباسية وصفق، فجعل
على بصرها غشاوة، فالتهمها هولاكو وقومه وجعلوها أثرا بعد عين.
2 التعليقات:
ربما هذا ينطبق على الامور تاريخيا، أما الآن فالأنظمة هي من تصنع مطبليها ولا غشاوة عليها لأنها تسير في طريقها عن نية مسبقة..
وحتى المنتقدين وإن ظهر بعضهم حكيما نقيا فليسوا كلهم كذلك
مررت من هنا
مقالة جميلة، ولعلها تسير في موكب النقد أيضا.
تحيتي
إرسال تعليق
اهمس لي