الخيانة نتنةُ الرائحة،
ماؤها آسن، طعمها حنظل، تشمئز منها الأنفس السوية، وتنأى عنها كرامة العربي
وتتنافى مع قيم النفس والدين. ولكنها عندما توضع فوق صحون الذهب وتُرقشُ بالفضة وتُغلف
بأوراق الدولارات وتفوح منها رائحة القصور والفنادق والبارات، أو تقدم مع فتى أمرد
أو بين شفاهِ شقراءَ تتورد، هنا تنقلب المعادلة وتنتكسُ الفطرة المائلة ويصبح لا
فرق بين بساط أخضر أو روث بهيمة أو بين لقمة هنية و حشرة دودية، تصبح الخيانة لدى
البعض معشوقة لا يقوى نكث العهد معها فيعيش عبداً لها، خادما تحت لوائها، ولكنه
يبقى تحت ظلام الليل يسير متخفيا لا أحد يعلم عنه، يستر خياناته تحت غطاء السلامة،
ولكن ما إن تتزاحم الفتن وتتوالى المصائب ويحتك الحديد بالحديد وتتطاير الأشلاء وينتصر
العزيز لعزته والشريف لشرفه، فلابد وأن يظهروا ككائنات مقيتة بين الأرجل تحبو، فالجُعل
لا يقوى أن يخفي رائحته ولا القنفذ أن يدس شوكه.
فمع أحداث غزة الأخيرة
بانت الحقارة وطفت الخسة والنذالة من أشخاص ومؤسسات وحكومات ركعت ذليلة تحت أقدام
صهيون، بهرت عيونها صفرة الذهب لتختلط مع سفالةٍ وحبٍ للشهوات متوارٍ في النفوس، فوقفوا
مع الظالم ضد الحق حين دافع عن حقه وضد الزوج أن دحر الشر عن شرفه، يبتغونها عوجا
كما هي في أحلامهم.
ما هؤلاء ابتغيت، فهم
أحقر من أن ننوه عنهم، فسلاحهم تغريدة، ولكن أردت أن أعَرض بقائدهم الأكبر
وشيطانهم الأعظم وسابقهم للورود لحوض صهيون والتمسح بأثواب (ماسيون).
الخائن الأعظم ابن
الخائن الأعظم (فيصل بن الشريف حسين بن علي) وما هو بشريف ولا أبوه شريف بل رجسٌ حقيرٌ دنيء. تعال
أيها القارئ واحكم بنفسك فهو لن يعدو عندي أكثر من نعل تركبها نعل.
بعدما أتم (الشريف
حسين) خيانته ضد العرب مع الانجليز وانكشاف رسائله مع (مكماهين) والتي بدأت عام
(1915) وأتمت بعدها بريطانيا اتفاقيات (سايكس-بيكو) ووعد بلفور ودخول (اللنبي) لدمشق
وتقسيم الشام والعراق وسقوط القدس عام (1917) وتوالت الأفراح بـ(اللنبي) الذي حقق
ما لم يحققه (ريتشارد قلب الأسد) من قبل، بحث الإنجليز عن خائن مناسب لهم ولمشروعهم
الصهيوني فلم يجدوا أخون من (فيصل بن الحسين) والذي قاد الجيش المسلم ليحارب الجيش
المسلم الآخر بسلاح الغرب الصهيوني من مكة وحتى دمشق. ليلتقي بعد ذلك بـ (حاييم
وازمان) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في العقبة (1918) ويتم وضع حجر الأساس
لصداقة طويلة بينهما بدأت بقول فيصل (إني لآمل أن تحقق كل من الأمتين العربية واليهودية
تقدما ملموسا نحو أمانيهما، وإن العرب لا يحملون ضغينة ضد اليهود الصهاينة بل
ينوون أن يسمحوا لهم بالعمل في فلسطين). لتتمخض هذه الصداقة الخسيسة باتفاق باريس عام
(1919) بالسماح بتأسيس كيان فلسطيني منفصل عن الدول العربية تقوم فيه بريطانيا
بتحقيق وعد بلفور وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهكذا بدأت المأساة حيث وقع
فيصل هذه الاتفاقية باسم (مملكة الحجاز العربية).
كان رأي فيصل واضحا جداً في الصهيونية فهو
يربط بينها وبين القومية العربية ويعتبرها قضية واحدة فسهل دخول مهاجري يهود سنويا
إلى فلسطين ووضعها تحت الانتداب البريطاني، حيث كان فيصل يحلم بحكم استقلالي في
سوريا مهما كانت ثمن التنازلات فكانت نداءاته قومية شجاعة في داخل دمشق خوارة جبانة
خائنة في أوروبا أمام أسياده. لتتوالى الأحدث سراعا فبعد أن فرط في فلسطين نُهبت
منه سوريا وهو كالأحمق ليوقع اتفاقية اعترف فيها باستقلال لبنان عن سوريا وتحديد
حدود سوريا الداخلية، وهكذا اتضح أن الكعكة اقتسمها الأعداء تحت موافقة الأنذال.
خان (حسين) ثم تصهين (فيصل) لينكشف الستار عن
خديعة لئيمة وفضيحة جسيمة وجرح غائر دفع ثمنه العرب، فقد ضاقت الدائرة من دعوة
لاستقلال الدول العربية كلها لدعوة لاستقلال الشام بحدوده ثم سكتوا عن فلسطين ثم
اكتفوا بالدعوة لاستقلال سوريا ثم تخلوا عن لبنان ولم يبقى لهم إلا الخزي والعار.
كان هذا فصل من فصول (التصهيون العربي) الذي بزغ
منذ أول قدم صهيونية وطئت أرض فلسطين، لتتوالى الفضائح يوما بعد يوم وتتساقط
التماثيل الكاذبة والشعارات الزائفة، وكانت الجوائز أن (حسين) مات منفيا مريضا
وحيدا ومات فيصل مسموما في سويسرا، بعدما أقاموا (اسرائيل) وخدموا الصهيونية بما لم
تكن تحلم به ولكن يبقى ما عند الله أعظم وأكبر، وأخيرا لعلنا من هذا التاريخ
المرير نثوب إلى رشدنا ونعي تاريخنا ونعتبر من تجاربنا فنبني حاضرنا ومستقبلنا تحت
شموع ماضينا فكم بين ظهرانينا اليوم من (حسين) ومن (فيصل).