خارطة طريق .







سُحقت اليابان لترضخ بعد الهزيمة لكل شروط المُنتصر وبنود الاستسلام المفروض والجلوس تحت طاولة الانكسار والموافقة على كل الشروط ولكنها رفضت ورغم هزيمتها الشروط التي تختصُ بالتعليم واللغة والثقافة... قالت اليابان للغرب : نعم انتصرتم علينا عسكريا واقتصاديا ولكن لنا تاريخنا الذي لن يُسلب، ولغتنا التي لن تُحرَّف، وثقافتنا التي لن تُبدل.
هاتان قنبلتان نوويتان أهلكتا حتى النور ولولاهما لما كان الاستسلام استسلاماً ولا النصرُ نصرا. ولكنهما اصطدمتا بصخرة حُكومة شعارها الإباء والشرف و ترتكزُ فيه على شعبٍ يعتز بقيمه ومعتقداته الثقافية والروحية وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي.
أما في المجتمعات المهزوزة والشعوب المقهورة فيكفي أن يدخل بينهم مستشرق متخفي كأمثال (رينان) أو (جولد تسيهر) أو (سنوك هُرْخرونيه) ليغتصب ثوب العروبة ويُمزقَ حُجب المجتمع المُغلق ويقلبَ موازين الفكر ويعكسَ اتجاهات المُعتقد و يُمَرغَ انتظام المعرفة، ويجعل الوطن كله كقاربٍ محطم تأخذه نسائم البحر وتموج به قطرات الماء. وتبعاً لهذا فَشِلَ الأغلبُ من العقلاء في كبح جِماح الشك الذي تسلل إلى لُبِّ الجهلاء فهشم معه رأس العقيدة و مازج بين الحاجة والشهوة فأثمروا عن ظلمات بعضها فوق بعض وجهل يُطبق على جهل.
هو الموت الثقافي الذي سهل لهم انسلاخنا التام عن كل ثقافتنا المُكتسبة مع مرور القرون الماضية حتى أمسينا كالمسخِ المُشوة لم نُبقي من ماضينا غِطاء ولا أخذنا من حاضرنا وِطاء، وعزز من أزمتنا هذا الثراء الحكومي الفاحش الذي أنتج شبحا اقتصاديا تنخره سوسة الفساد والعبث، فالمال مع موت الثقافة قتل مجتمعٍ ووأدُ أمّه.
الثقافة ليست علماً نتعلمه بل هو محيط يحيط بنا وإطار كبير شامل نتحرك بداخله ويشمل أخلاقياتنا وقيمنا الاجتماعية بل هو الحبل السري الذي يربطنا بالحياة، ومن الثقافة تتولد الحضارة الذي يتركب منها التاريخ.
ذكر (مالك بن نبي) أن أزمة العالم الإسلامي لم تكن أزمة وسائل وإنما أزمة أفكار، وعندما نتعمق في هذا المعنى نجد أن الكثير من تضعضعنا في مجالات الكون هي فعلا أزمة أفكار تتعلقُ برقاب النُخبة الثقافية في البلد، فالمثقف الأمين يجب عليه أن يدفع بدماء النشاط في جسد الفكرة التي يحافظ عليها من المُضي في طريق اللهو والعبث الصبياني، فإن سارت الأفكار النخبوية في هذا المسار العبثي فستجر معها الأجساد لذات العبث والمجون. وفي ذات السياق اختصر (محمد الغزالي) هذه الفكرة في قوله (الفقر فقرُ أخلاق ومواهب، لا فقر أرزاق وامكانيات) وهو هنا يعزف على ذات الوتر وذات النغمة، فنحن لا نريد شابا غنياً يركب أغلى السيارات ويرمي النفايات في الطريق، ولا ساكن القصر يزدري عامل النظافة، ولا حماراً يحمل الشهادة، ولا ببغاء تردد الشبهة، ولا مثقفا بيته السفارة، بل تكاملا مجتمعيا أخلاقيا تربويا فكريا.
إن اتفقنا أننا تحت اقدام مشكلة ثقافية فمن الغباء والمخاطرة في آن واحد أن نقتبس حلاً من خارج محيط هذه الثقافة ثم نرجو لها الشفاء التام والصحة الكاملة، فلدينا امكانياتنا وأفكارنا التي يجب تحريرها من أغلال التبعية المقيتة وسجون الاستهلاك الحيواني، فتوماس مكولاي البريطاني يقول (إذا أردنا قهر بلدٍ فيجب أن نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته وثقافته وتراثه الروحي)انتهى. فاللغة هي طريقُ الإيمان والثقافةُ سلمٌ لصناعة التاريخ والتراث الروحي شعلةُ هذا كله. ثم يجب لأفكارنا أن تتحقق ولثقافتنا أن تُفهم وبصورة عملية من غير شعارات مجلجلة ولوحات معلقة وأساطير مزخرفة، فالفكرة إن لم تُمارَس والثقافة إن لم يُعمل بها فستبقى كأرض حطباء لا أثر نافع ملموس.

وأخيرا أهمس في أذن وزراء التعليم والثقافة: أن في البلد طرقا عدة ومسالك جمة وأغصان وارفة وينابيع غزيرة فعليكم أن تكتشفوا طريقا نتصدر به مواكب الإنسانية ونسلك فيه مسالك القدرة على مصارعة الحياة وأغصان تنجينا من ازدواجية المتناقضات وينابيع ترتقي بنا لاختيار طريق الجدية في احترام النفس والأخذ بمعطيات العصر وبناء الثقافة الشخصية والرفعة بالقناعة الفكرية المصاحبة للدليل والوثوق بدين نعلم شموليته ونعلم تاريخه الناصع. 

من أجلك حائل .






مدنٌ تأن تحت وطأة اللامبالاة، وبلادٌ تفتقر الحياة من جراء الكسب الشخصي، وطرقاتٌ تنزف جراحُها تحت مشارط العبث، مباني ضخمة فوق أعمدة من هَباء، إن عاجلها الزمن أضحت غباراً منثورا. مستشفياتٌ مقابر، مدارس أكواخ، طُرق مجاري، حدائق مكبات قمامة، نوادي معاقة، أحياء ميتة، مكتبة مقطوعة من خِلاف.
هذا الواقع القاتل والمرأى المشين والصورة الباهتة لحياة نعيشها تحت أصداء التصفيق والتصفير وشعارات (عاش المسؤول) ورفع (البشت) ولعق الرخام مع استئصال شقفة لسان الصدق ووأد كلمة الحق والتفاخر بالعبودية.
في بلادي (حائل) وردةٌ سُرق رحيقها في وضح النهار واستُل لونها فأضحت كما الخِرقة، ونخلةٌ مثمرة اجتُثت من جذورها ظلماً، وسحابٌ ماطر مُنع القطر، وثكالى حُرموا حتى الأنين. كُممت أفواه لتنعق أفواه، نُسفت الجبال الشامخة فأضحت قتاماً، وشُيدت الأصنام الراضخة فأصبحت إشراقا. لم يعد ( الذر يقرُص) فحسب، بل وله مجلس ومُتكئ، ويُزار وإليه المُلتجأ، استحوذ الدلال المسكوبة والنوقَ المنحورة والصور المرفوعة والدعوات بإطالة ليله المُظلم الذي يستتر تحته كل خفافيش النهب .
العجز في إقامة النظام الذي بلغ حد الشلل التام، حتى في ردم حُفرة طريق بسيطة أو إنارة مصباح مُحترق، أو إصلاح انبوبة صرف مهترئة أو فتح مجرى سيل مُختنق أو انقاذ حياة أناس بسطاء، كل هذا وبقية الإجراءات القائمة تكشف عن عجز مُخيف في التعامل مع تقلبات جو عاجلة أو حويدثٍ طارئ.
كل ما يطلق عليه إدارة حكومية في بلادي (حائل) أضعف من عجوز عاجزة فقدت الابن والزوج والقريب، فالهياكل المُقامة والمُوكل إليها بالتنظيم أنظمة أنانية، عطشى، جائعة، نهِمة، لا بطن فيشبع ولا عين فتمتلأ، أمست واجهة تتملق لرفَاه المحظوظين والرعاية بأصحاب النفوذ وتلبية مكتسبات الأغنياء ومقدراتهم والسهر على المزيد من الفساد و التلف والخلل. أما نحن (الطبقة المنكودة) وذوي الاحتياجات المسروقة فلا نشُم إلا عفن التخلف الذي خلفه الوجع وأبقته الخيبة ومنحه انقطاع الأمل. نهرول صباحاً نبحث عن ماءٍ في مسجد، ثم نعود فلا ندري أمركبات نستقلها أم حميراً؟ أطرقات للبشر مرصوفة نسير عليها أم دروبا للكلاب الضالة؟ الأراضي البيضاء لذوي الحظوة والسور (المشبك) يلتف حول عنق البسيط، والقصور تُشيدُ في الشمال من خزانات الضعفاء والمساكين.
في بلادي (حائل) الحدائق منمقة وملمعة فقط في الصحافة المتسولة أما واقعها فلا يتجاوز أن تكون إلا وكأنها قاع صرفٍ صحي ومكبات للنفايات، فقيمة البرميل الأصفر أجدر أن يكون في جيب أحدهم من أن يُوضع في خدمة الصالح العام.
في بلادي (حائل) مستشفى الملك خالد – رحم الله الملك خالد- والمستشفى العام مات منذ أعوام. والله أن قَصَّاباً في سوق اللحوم لهو أمكن من طبيب الجراحة بل وسكينه أحد وأسرع نفوذا في الجلد. ولَـ (طلحةٌ) في (الشعيب) أقوى على ستر المطر من سقفٍ في جامعة حائل .
لم أتقوقع بداخل صدفة وأنسج الأحلام مسترسلة، بل واقع عشته، ومرارة ذقتها،  فدماء قلبي ما زالت تلطخ دهاليز الطوارئ منذ سنتين، وأعتذر فلم أملك الوقت لأعود بمُطهر وخرقة لأنظف ما جنت يديّ. نتساءل لماذا لا يتدخل من يحل المشاكل ويعالج الموت ويقي من الانهيار النفسي؟ فيمنع من الانتحار والغرق في آبار النفط. فالحوادث تكشف الكثير عن مسؤولٍ عالي ولكنه هزيل ومشوه، والشلل هو كل ما تبقى لمجتمع مكلوم وبنية مريضة ستؤدي بالخوف والخيبة نحو الاحتقان. فالنتيجة الكونية التي لا ينكر قدومها عاقل ستؤدي إلى مزيد من الاحتقان وإلى ثورة ضد كل أطياف المؤسسة الإدارية فها هي الشاشات الصغيرة تنتفض هادرة بحناجر الاحتقان ورافضة للواقع القائم التي أصبحت أساليبه وقراراته تقليدية مطبوعة بطابع واحد وهو العجز عن طرح الحلول بالإضافة إلى العجز في استيعاب المتغيرات.
لا أحبذ البكاء من دون اقتراح، ولا النحيب كما العاجز، ولأننا تحت سلطة إدارية تريد امتيازاتها وعدم التخلي عن طرف الخيط، فلتبقى كما هي على كرسيها العاجي ولها امتيازاتها واعطياتها المعتادة، على أن تُلقي بالمهمة على مجلس إدارة مستقل برئاسة مدير تنفيذي طموح له استقلاليته عن الحكم المركزي وله كامل الصلاحيات، ويكون من ابناء المنطقة يعلم ما بداخلها ويدري طبيعتها واحتياجات مجتمعها وافرادها ضمن التقاليد المتعارفة والعادات المعتادة، فيكون هو (الرئيس الإداري) صاحب استقلال جزئي عن (أمير المنطقة) ومسؤول مسؤولة كاملة عن كل شاردة وواردة.
لا عيب في فكرة ولا صعوبة في تحقيق، إلا في قاموس الحمقى والأغبياء والعجزة فربما سُنة حسنة تُسن، وفكرة غائبة تُطرح، تكون مثل الدواء الشافي والشفاء المداوي من كل علل وأمراض مدننا العتيقة التي تُبحر فوق بحار من الزيت، فقط لو أُعطيَ الخباز من خبزه.



بندر الأسمري

حيازةُ الحياة ومَنحُ ا لموت








في عصرٍ تمسكُ فيه قبضة (الأقوى) بتلابيب (الأضعف) وتُداس فيه (الشجيرة) بأقدام (الفيل) وتمتد يد (البالغ) لتخنق رئتي (النامي) ويموت عطشاً من بيته بجانب النهر، تُسنُ قوانين سنها الدب الغربي المسعور وأنزلها بمنزل المحتوم والتي تُمارٓسُ بمنطق الغاب وشراسة الأسد ضد الحيوان الأليف الضعيف ذي الحافر. يتعجبُ البعضُ من أمةِ العرب ويتعجب من جوها الخالي من العلماء الأفذاذ والعقول النيرة والأفكار المُلهمة ويسأل نفسه أين نَتاج هذا العدد من البشر وأين بحوثهم واختراعاتهم ومؤلفاتهم المعاصرة والموازية مع تقنيات العصر الحديث. لا يمكن اختفاء حضارة بأكملها أو قصور ثقافة كانت عملاقة بهذه البساطة، ألا يستطعن الحوامل أن ينجبن من يملك الفطنة والدهاء والعبقرية العقلية؟ هل هو ضعف الشعوب أم الخوف على العرش؟ أم هي مؤامرات تُحاك خارجية كانت أم داخلية ؟ ألا يحق للعرب أن يمتلكوا ولو مخلباً صغيرا يرهبون به أعدائهم ويتخلوا عن العصا التي يهشون بها على أغنامهم؟ ألا يحق لهم التسلح بسلاح القوة وسلاح الردع؟ ألا يحق لهم إنزال غطاء الضعف والتخلف عن كواهلهم؟
في قانون الطبيعة العادل يحق لهم ما يحق لغيرهم أما في قانون الغاب فقد سُنت القوانين وأُصدرت الأحكام من قضاة الأرض على العرب بالذل والهوان والقبوع في مؤخرة الركب، وما هذا إلا لهوان العرب في أنفسهم قبل هوانهم في أعين غيرهم.
هناك من يُنكر المؤامرة إنكارا تاماً، حسنا له ذلك ولكن سأتطرق هنا لثلاثة نماذج تدحض الشبهة وتكشف الغطاء وتُنير الفكر وتُفتق العقل، ثلاثة نماذج كالنجوم الساطعة في ظلام سماء العرب، وكالدرر الكامنة التي تهشمت تحت مطارق الخوف والحسد، ثلاثة نماذج أرادت نهضة أمّة ورقي شعب وتقدم عربٍ في الفكر والاقتصاد والقوة والاجتماع والسياسة، ولكن هناك لسان يرفض ويد تمنع.
دقق النظر عزيزي القارئ وأعمِل عقلك المتدبر وفؤادك المُتبصر ثم لك الحرية في استخراج النتائج لعلنا نتخيل إلى أين نستطيع أن نصل! سأسرد الثلاثة نماذج حسب تسلسها التاريخي فذاك أنكى للجرح وأوغل بالألم.
في عام (1898) وفي دمياط المصرية ولد فتى عبقري، داهية ألمعي يُسمى (على مصطفى مَشرفة) حاز المراتب الأولى في مراحل التعليم كافة فابتُعث للدراسة في جامعة لندن فحصل على البكالوريوس في الرياضيات ثم أتبعها وبثلاث سنوات بالدكتوراه في فلسلفة العلوم ثم وبعد سنة حصل على الدكتوراه في العلوم عام (1924) كأول مصري يحصل عليها ولم يسبقه على هذه الشهادة إلا عشرة علماء على مستوى العالم أجمع وكان عمره ستاً وعشرين سنة. عاد إلى بلاده حاملاً شعلة الأمل وشمعة العلم ويرى في بلاده التقدم الذي يطمح له والنجاح الذي يسمو إليه، عاد عالماً في الفيزياء ولُقب بـ(أنشتاين العرب) وانتج البحوث والكتب ومنها كتاب (الذرة والقنابل الذرية) في زمنٍ لم يكن في العالم العربي من سمع عن ماهية الذرة عوضاً عن القنابل الذرية. بل كان من القلائل الذي علِموا عن إمكانية تفتيت الذرة فحارب استخدامها حربياً، بالإضافة إلى أنه من أوائل من تحدثوا وتنبؤا عن إمكانية صنع (قنبلة هيدروجينية) من عنصر الهيدروجين.. ولكن الفاجعة بدأت عندما أعلن أنه ولابد لمصر أن تنتج قنبلة ذرية كأداة ردعٍ فعالة، وكالمعتاد فالملوك وأصحاب التاج لا يروقهم مثل هذا الطرح الجريء والذي يُغضب أسيادهم في الغرب فأثار بذلك حفيظة الملك فاروق الذي عزله عن منصبه بعد ذلك، وعندما زاد إصرار (مشرفة) على إدخال تطبيقات علم الذرة إلى مصر دفع ثمن ذلك بأن مات مسموماً عام (1950). نعم اغتيل العبقري الطموح واغتِيلت معه آمال أُمّة، وكان من أوائل من نعاه (البرت انشتاين(.
 لم تمت عقول الجهابذة فهاك النموذج الثاني وكانت أنثى عملاقة تُدعى العالمة الدكتورة (سميرة موسى) طالبة الدكتور (مشرفة) وهي أول عالمة ذرة مصرية وأول امرأة مُعيدة في كلية العلوم بجامعة القاهرة (فؤاد الأول)، سافرت في بعثة إلى بريطانيا لدراسة الإشعاع النووي، وعادت بشهادة الدكتوراه في (الأشعة السينية)، كانت تأمل أن يكون لمصر عصر تقدمٍ علميٍ بارزا تُصارع به بقية الدول الكبرى لتحقق معادلة السلام والعدل، قامت (سميرة) بتأسيس هيئة الطاقة الذرية ونظمت مؤتمر الذرة من أجل السلام في كلية العلوم، كانت تتمنى أن تصل بأبحاثها إلى استخدام الذرة لمعالجة السرطان لتُحقق فعلا انجازا للبشرية جمعاء. وفي ليلٍ شاتي وظُلمة دهماء وريح هوجاء من عام (1952) جاءتها دعوة من جامعة (سان لويس) لتجري في مختبراتها بعض البحوث والتجارب فسافرت وهناك في أمريكا جاءتها دعوة لزيارة المعامل النووية في ضواحي كاليفورنيا وفي أحد الطرق للمعامل النووية وفي أحد المنعطفات الوعرة قفز السائق الذي بجانبها من السيارة ليدعها تواجه مصيرها لوحدها مع شاحنة نقل ضخمة، فاصطدمت بسيارتها وحولتها من كومة حديد إلى قطعة صلصال، وليختفي ذاك السائق وبشكل نهائي وغريب عن الوجود، وليُغتال العقل العربي مرة أخرى ويُغتال الطموح والأمل.
كان الغرب يعلم أن في مقدور (سميرة) تفتيت المعادن الرخيصة إلى ذرات عن طريق التوصيل الحراري للغازات ومن ثم تصنيع قنبلة ذرية رخيصة التكاليف ولكنهم لا يريدونها أن تحمل الصبغة العربية والإنتاج العربي.
أيضا لم تمت عقول الجهابذة فهذا الثالث وهو الدكتور (يحيى المشد) عالم الذرة المصري – وآه على مصر كم أنجبت- الذي تخرج من جامعة الإسكندرية عام (1952) وابتعث إلى موسكو ليقضي ست سنوات ويعود متخصصا في هندسة المفاعلات النووية ليعمل في هيئة الطاقة النووية المصرية الذي أنشأتها (سميرة موسى) والذي جُمِّدت أعمالها بعد ذلك عقب نكسة (67)، لينتقل بعد ذلك إلى أحضان العراق ويُقيم بين نعمة الماء والنفط والآمال العراقية في بناء المفاعل النووي ليلتحق وبطلب من (صدام حسين) باتفاقية التعاون النووي العراقي الفرنسي، فأتعب الفرنسيين وأهلكهم في إصراره على أن تكون الشحنات النووية المرسلة لبغداد مطابقة للمواصفات المطلوبة فتم استدعاؤه على الفور إلى فرنسا للإشراف وبنفسه على شحنات اليورانيوم النووية. فذهب الأسد إلى المصيدة وهناك وفي فندق المريديان بباريس عُثر على (المشد) مُهشم الرأس ملطخاً بدمائه ليُقفل التحقيق وتُنسب الجناية إلى (مجهول)، وأسدل ستار التعتيم على مقتل (المشد) وبعد شهرين من اغتياله تم قصف المفاعل النووي العراقي من قبل اسرائيل، وبعد الحادثة بسنوات اعترف الموساد الإسرائيلي عن علاقته باغتيال (المشد). تم اغتيال العالم العبقري وقصف المفاعل والدجاج قابعٌ في قُنه يسجد للديك ويبيض البيض.

ثلاث قصص مؤلمة حد البكاء، مُبكية حد الجنون، مجنونة حد الموت، فيها تتجلى سياسة القوي والخوف المستتر من الآخر، مع دس العملاق  غصبا بداخل القمقم، ولكن سيأتي يومٌ ويتصدع هذا القمقم وينفجر عن شبح يأخذ بثأره وينتقم لتلك الدماء المسفوكة ..

أكوانٌ أربعة ..





أربعةُ أكوان .

1
سئمت المكان ، والأطفال جداً مزعجون، عقرب الدقائق الكسول لا يتقن القفز ولا يكمل الدائرة بسرعة؟ وهذا الجسر الكسول متى سيصحو ليقذف بي خارج المكان؟  ثم بعدها ليعود لنومه وشخيره المعهود . 
كرهتُ العشيرة، والازدحام والضيق، و أهفوا إلى ما وراء الجسر حيث لا أشواك ولا سجون ولا حُفر الطريق ولا شرطي المرور ولا جسر أيضاً يستعبدك خلفه. كل هذا كلام مسموع وأساطير قديمة فمن عبر الجسر أبدا لا يعود إلينا ويخبرنا بما شاهد.
نشوةُ الجديد تأسر عقلي الصغير، هيا يا عقرب،  سأبني لي كوناً كبيرا وشاسع ، لا أريد أحداً،  سئمت المكان المُغطّى.
أخبرني (السراج) بأن واحداً من هؤلاء المزعجين سيتوج ملكاً، واحدا فقط منهم.. الملكُ يكون هو أول من يصل إلى باب القصر قبل الآخرين. مهما يكن فهذه فرصتي وسأقبض عليها بأسناني فلا حياة لي هنا.

2

أُطلُ من نافذتي العتيقة، أرى في الشارع حركة لا تتكرر، الكُسالى يهرولون، والمزعجون يهرولون، إنها المنشطات، لعنة الله على من يعطيها لهؤلاء الأطفال المزعجون، يتناولونها فيصبحون أزعج وأزعج من الإزعاج نفسه، أغبياء !!!
يصرخ بي أحدهم و بصوت متعجرف: هيا انزل لقد استيقظ الجسر! ماذا ؟ ماذا يقول، الجسر؟ أحلامي ! فُرصتي ! القصر ! النساء ! الجديد ! صرختُ حتى  خَرجت لهاتي: إني قادم، ارتديت بنطالي وهرولت مع المزعجين أصحاب الذيول، أخترقُ جدار الوقت، فالسراج قد قال : إن فُتح الجسر فكن الأسرع الأسرع الأسرع . أكره هذا الجسر، سيقذف بالدفعة الأولى منا ويعود للنوم، يجب أن أسرع أكثر، أضع كفيَّ على صدري، أَخفض رأسي قليلاً، كل ما فيّ يدفعني للأمام، حتى ذيلي !

3
وأخيراً عبرت هذا اللعين وقذف بي للأمام بعيداً : هُبَّاااااا.
ما أجمل التحليق في الحرية، تباً للسجن. أصداء تطرق أذنيَّ: هبَّاااااا ، الكل كان يقول : هُباااااااا ..
لقد عبروا معي، لم تنتهِ الرحلة إذن، من هنا تبدأ، سأريكم يا أصحاب الذيول القصيرة، هذا طريق يبدو أقل ازدحاماً، وهذا منعطفٌ حاد، ويلي سأرتطم بالجدار، آآه لقد نجوت، الطريق طويل، ها أنا أمام القصر، أين هو الباب السري، أين؟ أدورُ حول القصر، المزعجون مازالوا بعيدين، ولكنهم سيصلون حتماً، السرعة، السرعة ، أريد ماءً، اصمت أيها الحلقُ الغبي، ما هذه بساعته. أنظرُ خلفي، المزعجون يقتربون و ينظرون إلي مخرجين ألسنتهم، هناك نقطة حمراء صغيرة على جدار القصر، أقترب منها، أضع يدي عليها فينفتح باب الجنة، أدخلُ ويُغلقُ الباب و تُسحب الستائر وينتهي فصل السرعة، أين الماء...

4
احتفاء من الخدم، كل هؤلاء عبيدٌ عندي ! أأنا أستحق؟ ربما من أجل السباق. ولكن لماذا أستحق؟
موائد الأطعمة مد البصر، والجاريات كالنجوم، و(السراج) لم يخبرني بكل هذا ولا بنصفه ولا بربعه ولا.. ولا ..
سوق، متحف، سهل، جبل، وادي، وردة، وسواس، رحى، أشياء لم أكن أعرفها ولا أدري كيف عرفت أسماءها، لن أشغل عقلي وسأستمتع.

إنني أكبر وأكبر، منذ أمد بعيد كنت بين المزعجين ولم أكن أكبر، وما تغيرت، أما هنا فأتضاعف، سأكون مثل هذا القصر، ولكن من بناه؟ أرى عبيدا بلا أفواه. مع الطعام سيكبر رأسي وأهتدي لشيء، وما شأن رأسي؟ لا أدري، هناك شيء يتحكم بي. سأكتفي بالأكل ..
قرعُ نعالٍ على الأرض ! أحدهم قادم بل قرع اثنتين، هل دخل المزعجون؟ لا يمكن، ( السراج ) لا يكذب هو قال واحدٌ فقط. ولكنهما اقتحما الباب وكسراه، قيداني بسرعة بأطراف السرير، كمماني، أوثقا الرباط، تُصارعُ الصيحاتُ لتخرج من أنفي، أخرج الأول سكينًا وغرسها في صدري، وشق الجلد وأدخل يده بكاملها وانتزع قلبي وهو يرفرف كطائرٍ مذعور بين يديه، ألقاه مع النافذة بدمٍ بارد وأخرج من كُمِّه قلبا آخر و زرعه مكان القلب القديم، هدأ صوتي، وغشيتني السكينة، خاط الجرح ومسح الآخر عرقي وخرجا كما دخلا ..
يا إلهي !!!
ماذا ؟ يا إلهي !!! ماهي يا إلهي !!
لساني حلو الطعم وعيني ترى الجمال وسمعي يصغي، جسدي يكبر، وعقلي يكبر .
صفعتني فكرة وقالت: أين كنت يا مجنون وأين أصبحت ؟ ( السراج ) لم يخبرك بكل شيء ,,, ثم حلقَت وذهبَتْ بعيداً.. لم أعد أراها لأسألها .

5
تتزلزل أركان الأرض من تحتي، ويتموج القصر، انقشع الهدوء وهبط الزلزال، الدماء من حولي تغمرني، غاصت قدمي، جدران القصر تقترب من بعضها، تدفعني للخارج باتجاه البوابة التي تُفتح لأول مرة، هو غضبُ صاحب القصر لا محالة؟ الخدم سئموا حياتي كما سئمت أنا حياة المزعجين، سأُطرد من الجنة ولكن إلى أين؟
سقطتُ على رأسي، انزاحت غمامةٌ بيضاء من على عيني، أرى مالم أكن أراه، إنه عالم العمالقة. ما بها هذه المُكممة ترفعني من قدميَّ وتضربني؟ تكرهني! .. إني أبكي .. أبكي!! وما البكاء؟ وما هذه المياه من عيني؟ أين أنا؟ مازال الرحى يطحن في رأسي، لا يجد من يقوى على إيقافه. عالم مزعجٌ آخر إنها عقوبة ولكن ممن ؟ يا إلهي، لم أفعل شيئاً في القصر سوى التهام ما كان في الأطباق. أمامي شيءٌ عملاق وعقلي كالحصاة، حولي وحوش ما عدا واحدة ..
أرفع بصري لا أرى أبعد من السقف، اختنقت وأريد الهواء، سِرتُ في ممرٍ طويلٍ إلى باب صغير، هذه هي المُحرِقة وتلك الزرقاء، هذا النسيم والطير والسفن البيضاء بالأعلى وماءٌ في الأرض، عجيب!
القلب الجديد ينبض، قشرة الليمون صفراء حامضة، وقطرات السماء أيضاً، رحيق الأزهار أَسود, واللؤلؤ قاس، الشمس تشرق والناس تتقاتل، في داخلي جزيئات تتحرك، تتوالد، تتصارع، هواء يدخل و ماء يخرج، غيبيات تتزاحم فوق رأسي وفي رأسي، فقط أقف تحتها في سكينة .
البحار تُزمجر وتضرب الأرض بلا رحمة، أشجار باسقة وحشرات ذرية، عنكبوت يشد من أوتار شبكته ولا يقوى حياكة السجاد، ونحلٌ مُتكاتف ولا يعرف الحب، ما هذا كله ؟ ألن تقف تلك الطاحونة في رأسي؟ إني مهذار ولساني أطول، هذه فتاة تختلف عني، شعرها طويل فقط ، جذبتني كالمغناطيس، هناك من كل شيء اثنين، واحدٌ وواحدة، ما سر الشابين ولماذا قيداني ؟
لا حتمية ولكنني في ظهر سفينة سطحها كالميدان يسع الجميع، تُبحر فوق صفيح من الهواء مرسوم فيه طريق تعبره، أين غرفة القبطان ؟ وأين راسم الطريق ؟
إدراكٌ مباشر ألهمني بأنها سفينة لأنها فعلا سفينة، قد يعلوها فوضى خلاقة ينبثق النظام منها ليرسم لوحة من الرمال يعجز أن يتطور ليبني قصرا من الرمال، وما عقلي إلا بعضٌ من رمال الصحراء .

بعضهم يسقط من السفينة ولا يعود، السفينة عدو الإنسان، أم الإنسان عدو نفسه، ربما السقوط هو النجاة من إزعاج سطح السفينة.

شالدران .






بالشين كانت أم بالجيم، فما هي عندي إلا راية حقٍ رُفعت، وصرخت رجلٍ دَوَّت، ونُصرة مظلومٍ سُحق من أجلها أربعون ألف جمجمة. شالدران لم تُكبرها لنا عدسة، ولم نقرأ عنها في مدرسة. فاليوم وإن هناك من يتغنى بحملات نابليون ومعارك هتلر وفروسية هانيبال، فليفسح لي ولو للحظة بالتغني بما هو حق، والتطرق لما هو أعظم من أن تستره كفٌ من أصابعٍ خمس، أو يحجبه عنا لمعانٌ من قرصِ شمس.
عندما كانت رايات الجهاد العثمانية تبثُ أريج (لا إله إلا الله) في كبدِ أوروبا، والناس يفرون من تعسفِ البابا ونواقيسه، إلى حدائق الإسلام وبهجته. كان على النقيض وفي الطرف الآخر من يُحدِق بعين العِداء ويمكُر بعقل المقت وينَقِب عن فرصةٍ تلائمه ومغنمٍ يغنمه من دولة الإسلام، فأنشأ مذهبا يُضاد به (آل عثمان) ويتميز به عنهم، وهو شاه الباطل ومؤسس الصفوية (الشاه اسماعيل).
وكأني بهذا الشاه وهو ينشر التشيُع بحد السيف وقوة السلطان وظلم الجبابرة، فزاوج بين تعاليم التشيع وما تعلمه من الصوفية الفارسية وبين القومية الفارسية التي تدعو بالاعتزاز بالهوية الإيرانية وتفضيل العجم وتمجيد الأكاسرة، فأمر أتباعه بالسجود له وابتدع سب الخلفاء الثلاثة وجعله هو المحك والحكم الذي يُعلن به الناس عن موافقتهم لصفويته المزعومة، ومن أبى فوداعا لرأسٍ كان ينتصب على الجسد.
أقول كانت هذه الصفوية تغرسُ خِنجر الغدر في ظهر دولة الإسلام وتُزاحمها على حدودها وتُأجج عليها قبائل (القزلباش) المتاخمة لها، وتناصر البرتغاليين الذين أرادوا نبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل بلغ بالصفويين المبلغ أن استولوا على بغداد ولم يقتصروا على الدخول فقط بل أقاموا مجزرة في أهل السنة في العراق بعد أن سفكوا دم ما يقارب من مليون سني في إيران، ثم نبشوا قبر الإمام أبي حنيفة وأخرجوا عظامه واستبدلوها بكلب أسود، لم تكن إلا حربا وقودها الغيظ و خيولها البُغض ورماحها الحقد على الدين وأهل السنة. وفي تلك الأثناء كانت دولة الإسلام مشغولة بممالك النمسا وهنغاريا وروسيا وعلى رأسها ومالك زمام أمورها الشجاع والد الشجاع (سليم الأول) تاسع (آل عثمان) وفاتح الشام ومصر وناقل الخلافة إلى الترك. لا أكذب فقد أشغله في البدء قرصات سفيه الصفوية (الشاه اسماعيل) وآذته في ظهره فجعله في رأسه ولم يستعجل، فأطفأ شعلة النار في بيت السلطان، وأمسك عنان المُلك وشمل الأوطان، ثم نظر حوله فأقام هُدنة مع ملوك أوروبا ليأمن الجانب ويسلم الغدر، ثم شد خطام فرسه وأداره من الشمال إلى الجنوب، ثم أقبل كسيل جارف وموجٍ هادر تسوقه عزة الإسلام و تقوده الرغبة في توحيد البلاد وتطهير المساكن والمقدسات. فأرسل رسالة للصفوي تنضح ثقةً وتَقطُر صدقاً يقول فيها: (أنا سيد فرسان هذا الزمان، وحقٌ علينا أن ننشط لحربك ونُخلص الناس من شرك)، فلم يأتي الرد فأتبعها بأخرى باللغة التركية مُخضبة بخضاب الموت ومنقوشة بلون الدم يقول فيها: (إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان، ولن نمل انتظارك) وجعل معها ملابس للنساء وعطورات استهزاءً بالشاه اسماعيل.
وعندما وصلَ إلى (شالدران) وفي الصباح، دوت أصوات رعدِ مدافع آل عثمان، وماجت صرخات الإنكشارية الشجعان، وتعانقت السيوف، وجُندلت الصفوف، ووصلت السماءَ التكبيرات، فلاذ الصفوي بالحجرات، تساقطت السماء شهباً، وأُلهبت الأرض شررا، ثم بزغت شمس النصر وهبت نسائم الفوز وبان الحق وزهق الباطل، هرب (الشاه اسماعيل) من (شالدران) وترك وراءه أهله وجيشه، فدِيس على رقاب من سبوا الخلفاء وهُشمت جماجم من حارب الإسلام وأُخذ بثأر شهداء بغداد، ورُدت كرامة أبي حنيفة.
الصفويون ظلموا وطغوا وتجبروا وحاربوا الله ورسوله بغريزة الوثنية والحقد والكراهية للدين والعرق، فأذاقهم الله شرا مستطيرا. وفي ختام (شالدران) عاد (سليم الأول) بالنصر وبالأسرى وبينهم زوجة (اسماعيل الصفوي) ونكاية به زوجها بكاتب من كُتَّابه، وأيضا عاد (الصفوي) مطأطأ الرأس، جارا أذيال الهزيمة وظل يعاقر الخمر بقية حياته من شدة الكمد والحنق حتى هلك.

جميلة هي لوحة الانتصارات بجمال عزتها، وصور الظفر برونق شموخها، وأسطر الغلبة بروعة رفعتها. رُد كيد الصفوية وجثموا قرابة المائة سنة، ولكن نار الحقد لم تنطفأ وأعين السخط لم تُفقأ ورؤوس الانتقام ما زالت كرؤوس الشياطين، فعادوا اليوم كما كانوا بالأمس لأننا لم نعد نحن كما كُنا، بل وبطمع أكبر وهمة أعلى وتخطيط أدق وجيوش أعظم. عندما أخذنا بأسباب النصر انتصرنا، وما طرائق الهزيمة ببعيدة عن ناظرينا. هذه معادلة التاريخ، والأيام دول لمن لا يرعى حق نفسه وحق شعبه وحق عرشه، فلا أسمعنا الله صرخات الثكلى ولا عويل اليتامى بين ظهرانينا. وليس بغائب عن صاحب النظر أنهم أحاطوا بنا ليس كما يُحيط السوار بالمعصم بل أضيق دائرةً وأشد إحكاماً، فواجب علينا التنبه والاستعداد والتكاتف ونبذ خلافاتنا فالعدو واحد، وإلا سنقول ( شُنقتُ يوم شُنق صدام ).

قرار ملكي





قَطِّع، قَسِّم ، جَزِّء ، اسرق ، كُل، اغتصب.
كعكة، فطيرة، شطيرة، خُبزة، كِسْرة، شرف !!!
اغمسه في الترفْ.
ثيابُ قارون التحفْ.
صَرفْ.
غَرَفْ.
مألوف، دارجٌ بينهم في الغابة.
انحرَفْ.
يا وزير، امنحه الشرقيَ من البلاد.
وألفاً من الجياد.
جدته ( نوره) وهو من الأسياد.
وباقي الشعب أسقطهم تشاد.
انظر هذا ( الدُرُّ ) وهذا ( الكهرمان)
هذا (مُريح ) وذاك ( خالد ) و( مشعل ) والأخير (منصور ).
لم يهبط مثله على مر العصور.
رُكن الأمه وعماد الدين، كعمه المنصور.
علماء وربك، حكماء، أتدري أنهم كلهم وزراء.
كُلهم وزراء.
كُلهم وزراء.
أبوهم ملك، صحيح.
إنها الأمانة والترشيح
ترشيح، ترشيح، ما من قطُ تشريح.
ولك أن تستريح.
أنا أكره المديح.
لا تُطلق سهام فكرك أيا مواطن.
اجعلها في الكنانة.
قيد بعيرك نحن أمراء البواطن.
نحميكم يا سفلة.
من أنفسكم يا جهلة.
لنا الصدارة والسماء.
نحكمُ،
نقتلُ، نزني.
نمنع عنكم الماء.
نحن الأمراء.
نحن الخلفاء.

يا تعاسة الجبناء.

وكزةٌ في جنبِ مزهرية .








ما إن وضعت اصبعها السبابة وسمعت صوت رنة الجهاز الذي يُنبئ صاحب الجاكيت والكرفتة المزركشة أنها ولجت كهفها اليومي الذي تتزاحم فيه الدوائر السوداء أمام عينيها مُعلنة طقوس وخزات الإبر التي تتلقاها كل يومٍ ماعدا يوم الجمعة حتى أدركت أن كل من في هذا المبنى يحتقرها.
كانت تستديرُ وراء حاجز الاستقبال تبحثُ عن نفسها التي فقدتها بذات الإصبع التي عانقت القلم لترسم خطوطا متقاطعة تُعلن بها انتحارها.
تقفُ كل غسقٍ أمام المرآة لتملأ رئتيها بكل الهواء المُهيأ لها، وتُسبل جفنيها لتتدحرج دموع الحنين على وجه كان متوردا نضارة وخدودٍ اشتاقت للورد القاني والذي تكفلت بإسقاطه الأيام لتكشف أوراق الخريف وعواصف البرق الشاتئ، كان فقط بكاءً أبكم.
تتبرج بالقليل فلم تعد تجد من يستحق الكثير. تضع يدها على صدرها فيلتهب ضميرها ناراً تأكل كلَ ما في المرآة، ترتدي السواد الذي مزقته قبل أشهر. يرتج لحمُها متوجهة على الطرقات المنقطعة والموحشة، وحيدة إلا من مرآة السائق التي تلتهمها، لم تعد تشعر حتى بالمقعد المهترئ من تحتها. لم تقوى على مقاومة تلك الابتسامة الصفراء التي افتضت مبسمها  لتثير ضحك فؤادها على عقلها الذي رأى في صكوك الغفران و سماع خشخشة المال مفاتيحا للولوج لحدائق البهجة والصفاء ودكاكين الرجال ومراتع الرقص في الخلاء.  
تمر عبر نفس الصحراء التي تُحادثها كل صباح، وفوق نفس الأفعى السوداء التي ابتلعت والدها، وفي هذه اللحظة احتل رأسها امنية أن تجد فم الأفعى، واشتهت دخوله لتبحث عن أسوار الأمان. ترجلت عند ذات المكان الذي تقف عنده لأداء صلاة الفجر. جدران المصلى الصغير كان قد حفظ عن ظهر قلب صورة الفتاة التي تمزقت وحفرت بأصابعها حفرة للأشلاء.
صوت منبه السيارة يُزعج الكثبان والحصى وهي أيضاً، هو ذات الصوت الذي يرتسمُ أمام وجهها قبل النوم كذَكرٍ طويلُ الأنياب، حاد الأظافر، تتقطر الدماء من تحت شعره ويلوح لها بوقت العمل.
تحيي الزبائن المبكرين بحروفِ ألمِ الألم وغصة الموت وحنق الحاضر، صوت الهاتف ما عاد يفزعها، تمتد يدها كآلة لتجيب وتتحدث مع قليل من أداء واجب القهقهة، لم يزد في أجرها، فمها لا يفوح بالرائحة ومع هذا فقد أصبح عُمرها أكبر من قهقهة.
تلتفت لصديقتها بجانبها والتي تحمل نفس فصيلة الألم، تسألها فتجيبها على عجل وهي تشمُ رائحة الأنين المتعفن: فقط أغمضت عيني وأشحت بوجهي لأتركه يسرق مني ما أراد، فقط ارتديت ملابسي وعدت وراء حاجز الاستقبال. لتعتريها مسحة المشاعر الحقيقية للمهانة.  
صدى صوت التهاني بالمنصب الجديد يضرب حِيطان الممرات حتى يطرقَ سمعها، تموت أكثر مشاعر العزاء داخلها، يضحكون من حولها من غير حناجر، الكل واضح الأثر عليه مكان اجراء عملية الاستئصال. بيادق!
تصفق بفخذيها وتسأل نفسها: هم أعلم ما كان القربان؟ تناجي روحها التي تحت المقابر: لماذا هم صامتون؟ لماذا المشي أصبح على الرؤوس؟ والمصانع أيضا أصبحت تصنع أحذية للرؤوس؟ وأغطية للأقدام؟ البكاء نجاح، والفرحة شماتة، والذل سُلم. تناولت المرآة الصغيرة المتصدعة وحقيبتها لتصعد السُلم والذباب يلتصق بأردافها وقد تركت روحَها المخنوقة حد الموت خلف حاجز الاستقبال.
رائحة نظافة الممر تُخفي أبشع القاذورات خلف اللوحات المتعلقة بمسامير هشة تخترق الحيطان مُحدثة ندوبا لن يغطيها التابوت. ورقة التعليمات تقدحُ شرارة الحريق بأنه إذا وصل صاحب اللحية الخفيفة المشذبة فيجب اسقاط القلم على الأرض ثم الاستدارة للخلف والركوع لرفع ذات القلم فلا نريد شكاوى من قلة الذوق.
الضحى، الظهيرة، آخر المساء، بعد العشاء، يهزها السائق عبر الطرق المُظلمة هناك حيث الاجتماع، يجب أن نرفع الأوراق الخضراء حتى ولو كانت مهترئة وممزقة فقط يجب أن تكون خضراء .
تعود بيتها لتقضي ليلة أخرى تجر فيها عربة ألمِ الجرحِ النازف وتمسحها بمناديلها المُعقِمة، لا تملك الصوت ولم تعد الأصابع تثير النشوة، فقط تأملُ في أصابع من غير أظافر حادة تجرحها، كانت الأرض رخوة لا تشعر بها.
ارخت رأسها على وسادة الفئران، وارخت معها جفونا لا ترتخي، رأت في منامها الذي يُماثل اليقظة صورةً لمزهرية منمقة، فاتنة، وكأنها البدر في جلائه، منقوشة بنقش اسلامي أصيل تتماوج فيه الخطوط مع الدوائر عبر خلفية بيضاء لتتقاطع عند ألوان زاهية بنفسجية براقه، كانت المزهرية صغيرة القاعدة ثم تصعد قليلا لتنتفخ بانسيابية هندسية غير مزعجة لتصل لفوهة صغيرة كأنها المبسم الساحر، يشع منها النور ولم توضع بداخلها الزهور. كانت في حضن عجوز جليل فتلقفها منه صاحب اللحية الخفيفة المشذبة ليضعها على حافة طاولة الطعام لتأتي هي وبعصا طويلة وتنكزها مع وسطها لتسقط على الأرض التي ما عادت رخوة وتتحطم لأشلاء تتناثر تحت أقدام المارة.. لم تستيقظ من نومها فلم يكن الحلم حتى مزعجا.



زفرة عربي.




فرّ الأكسجين وولى وأدبر، وأضحينا كائنات لا تستنشق ولا تتذوق. افتقدنا البضاعة الأصيلة والفرس الأصيل والبائع الأمين والسوق النظيفة والعذرُ أن الزمان أراد هذا والقدر أصابنا بما لا نقوى رده.
نلجُ سوق الإعلام المرئي فنرى الهزيل والضعيف والعوراء والعرجاء وهذا مُستنكر ولكن الأشد نكراً أن الهزيل يرى في نفسه البدانة، والضعيف الشدة، والعوراء زرقاء اليمامة، والعرجاء تُسابق الشنفري، فأضحى الرائي مُرائياً، والشاشة هَشاشة. فيُراودني لماذا يُقدَّم السُّم مع وجود الشفاء، والآسن مع توافر العذب، والنتن عن المستطاب. ثم وزيادة عليه ها هي تلك الموائد عامرة، وبالزوار مزدحمة، والطرقات إليها تعج بالرائح والغادي.
وذات الكلام عن المقروء والمسموع فقلما تجد كاتباً يُتقن ما كتب، أو مذيعاً يعرف بما نطق. تقع عيناي على صفحات الصحف فأدهشُ من بعض ما كُتب فيها ويوصفُ «بالجزالة» فإذا به «سخافة» وأُقلبُ عن «الحصافة» فأجد «الجهالة» وما هذا إلا من أساليب ابتدعوها ومصطلحات ابتكروها، فتصرخ واسيبويهاه واجاحظاه.. وأتنقل بين محطات الإذاعة فلا أسمع إلا صراخاً في مسابقات سخيفة وضجيجاً في برامج بلا محتوى فهذا يتغزل في تلك وتلك تتغنج لذاك.
كنتُ مبهوراً بقامات أيامَ الظلام التقني والانكفاء على حدود القرية وقبل أن تنكشف السماء وينقشع الغمام، فانكشفوا في عصر النور وشبكات التواصل فرأيتهم يهرفون ويهذرون، إن ناقشت أحدهم استكبر وأبى، وإن أخبرته ولى وعصا، كأنه كوكبٌ في السماء لا يقرب الأرض ويتنزه عن تربتها. وآخر له حروف جميلة ونُمْرُقة مزخرفة في الصحافة، فإذا أنشأ وَشَى وإذا عبَّر حبَّر، ولما زرته عند «تغريداته» فإذا العلقمُ يُصب صبا، والمُر يُسكب سكبا، فالهاء عنده تاء، والقطع في مذهبه وصل. وهذا يدل على أن خلف السُّتر ما خلفها، فالأقلام تتناوب والأوراق تتبادل ومرة تُمسكُ لي ومرة أقطعُ لك.
لستُ هنا لأُحلل وأنقد وأَميز الخبيث من الطيب فما هي تجارتي ولا أملك المال لأقتنيها، ولكن السيل بلغ الزبى، وزفرة بالصدر ضاق بها المكان. ولهذا فقد أُعيدُ الأمر لبعض الأسباب وليس جُلها، فمنها أن بين ظهرانَينا عظماء أدباء ومثقفين، أنوفهم أنفت الرائحة وأقلامهم أبت أن يسيل حبرها على صفحات كهذه فتنحوا وخلت الساحة للمتسلقين. فأدعوهم للعودة لنجدة العربية من أهل العربية. فإن صلصلت سيوفُ الكبار خرست طبول الجبناء، والبُغاثُ أبدا لا يستنسر. هذا بالإضافة إلى أننا ما زلنا في حاجة للتعلم والتعلم والتعلم فلا نقتحم مكاناً إلا عن دراية ولا نركب صعباً إلا عن تسلح وشجاعة، ومن المفيد النافع الاطلاع على أعمال من سبقونا، ففي كل عِلم رأسٌ ولكل جبل هامة، فخذ منه وانتفع، وارتق بوعيك وارتفع. نرسمُ لأنفسنا خطا يميزنا وهدفا نرجو بلوغه، بلا تقليد ومحاكاة بل تجديد برائحة السالف وتحديث بعبق الماضي.
لن نعيد زمن الرسالة والثقافة العربية والفكر المعاصر والمنار والعربي واقرأ أو نُنتج مثل المناهل ومدينة القواعد والحروف والعلم والإيمان ولكن نستطيع أن نقرأ ونشاهد ونسمع أفضل منها إن وجد الإخلاص التقي والهدف الأسمى والتفاني المُثمر والاحتساب لقابض السماء والأرض، لعل قلما يبرز فيجندل الخصوم ويسحق الأعداء ويحطم الأصنام أو لسانا ينادي بانتصار الحق وزهوق الباطل وهلاكه، وما ذاك على الله بعزيز.


نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٩٢٦) صفحة (١١) بتاريخ
 (١٧-٠٦-٢٠١٤)


عشرينيات العشرين




سألني ذات مرة (عشيري) عن ماذا لو عادت بي عجلة الزمان وغاصت بي سراديب السنين والدهور والأيام ففي أي عصرٍ أريدها أن تقف وفي أي مكان أود أن أختار؟
فقلت له بلا تردد فالحلمُ كان في رأسي قد عشعش، والأماني في صدري مستوطنة وما جرى على لسانه معي كان يجيش في خاطري منذ زمان!
أجبته والحسرة على محياي، هي القاهرة ساحرة عقلي وعينيّ، وفي العشرينيات من القرن العشرين غاية منتهاي. فالقاهرة للأعادي قاهرة والنيل هو:
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ والجنةُ شاطئه الأخضرْ
ريَّانُ الصَّفحةِ والمنظرْ ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ !
فسرح خاطري وجال، فإذا أنا في شقة العقاد، استنشق الغبار وأتصفح كتبه وأتقلب داخل مكتبته الوارفة وعلى أوراقه البسيطة، أقرأ اسم (سارة) وأنعم وسط ديوانه وشعره. أراه غاضباً كعادته مُكابراً معانداً، أسمعه يصرخ ويقول (ومن الذي يختبر العقاد؟). وبجواره طالبه الفيلسوف الذكي المُفكر (أنيس منصور) وعلامات التيه والحيرة على محياه..
ها هو العقاد يُنشد بحزن وشجن أبياته في (مي زيادة):
أين في المحفل (مي) يا صحابِ.
عودتنا ها هنا فصل الخطابِ.
عاملني بالكرمِ بما لا مزيد عليه، وطلب مني المقام عنده فتحججت. خرجت من صالونه لألتقي العميد (طه حسين) لأَدلف شقته الأنيقة الناعمة الهادئة المُلهمة، هو قابعٌ يقرأ ويكتب ويغوص في الأدب والشعر الجاهلي، ناولني سيرته (الأيام) وكتبه (الشيخان) و (الوعد الحق) و (دعاء الكروان) ولما وليتُ منه نصحني وقال: ويلٌ لطالب العلمِ إن رضي عن نفسه.
أسعى للرافعي، ومن الرافعي ووصف الجمال وفلسفة الجمال وجمال الجمال؟ عبقريةٌ فذة في صوغِ الصور من المعاني وتوظيف المعاني لوصف الصور، جلست عند ميمنته فأنشد:
يامن على البعدِ ينسانا فنذكره
لسوف تذكرنا يوماً وننساك.
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرُ
له صباح متى تدركه أخفاك.
شكواه عن المساكين وحديثه للقمر ومناجاته للسحاب الأحمر ووحي القلم له ورسائل الأحزان وأوراق الورد وتاريخ الأدب، كل هذا يُخبرُ عن جبلٍ أشم وشامخ يعلو فيعانق كبد السماء فهو صاحب مبدأ وتُقى وورع.
سألته عن خلافه مع (العقاد) ومع (طه حسين) وعن رسائل الحزن فما أجابني وانكب على السفود ليُكمل شويهُ للعقاد واللهو به. تركته بين أوراقه وقصائده لأرى بالقرب (نجيب محفوظ) يراجع روايته (عيال حارتنا) فاقتربت وسألته لماذا يا نجيب؟ أنت سماءٌ في الأدب وبحرٌ في المعاني فلماذا قتلت الجبلاوي وهو حي لا يموت ؟
أخذتني قدماي في شوارع القاهرة وانبهرتْ عيناي من رؤية ما يُسمّى (القطار)، لم أكن أعرفه في المستقبل فأنا في السعودية! يا لهذا الحظ المبارك فها هو الدكتور (زكي مبارك)، جالساً على الحصير وماداً قدميه مُحتضناً كتبه ومعه تلك النظارة السميكة، هل أناديه الدكتور زكي أم الدكاترة زكي، سألته عن (عبد الرحمن بدوي) فقال هو ما زال صغيراً مالك وله؟ لم أخبره بما سيكون هذا (البدوي) فآثرت الرحيل بعد أن قبّلت رأسه وقلت له: لقد أجدت وأجدت ونفعت وألهمت.
التهب لهيب شوقي، وأنا أبحث عن أحمد شوقي، شاهدته راكباً إحدى مراكب النيل وبجواره العظيم حافظ ابراهيم، كان شوقي أكبر من إبراهيم بالعمر ولكنه يجله ويقدره وبينهما طُرفةٌ ومزاح، فصدح حافظ إبراهيم وقال:
يقولون إن الشوقَ نارٌ ولوعة
فما بال (شوقي) اليوم باردُ.
فابتسم شوقي وهو ينظر إليّ وقد عرف أنني من غير المكان وقال:
استأمنتُ الكلب والإنسان أمانةً
فالإنسان خان والكلبُ (حافظُ).
تركتهما وأنا على عجل، فالموعد مع (إبراهيم المازني) قد حان وقرب، جالسته ليُعلمني استخدام الصورة في الشعر حتى يَبين بها البيان ويجلو المراد. أهداني (حصاد الهشيم) و(خيوط العنكبوت) وديوانه. أنستُ معه وقتي، وتركته وشوقي أعظم وحنيني له أكبر. سألني قبل الوداع هل قابلت المنفلوطي الذي ملأ الأبصار والأسماع؟ فكأنه أفاقني من غفلتي، وذكّرني بمن عنه لَهت ذاكرتي، هرولت لأستاذي في المقالة ومُلهمي في الصورة والعبارة، طرقتُ الباب ودخلت وعانقته وقد كان هادئاً رزيناً يُراجع (النظرات) ويُقلب في (العَبرات)، أردتُ البقاء ولكن الوقت أزف فاستعجلتُ لبنت الشاطئ بنت عبد الرحمن، تلك المُفكرة الكاتبة الاستاذة، أخبرتني عن جامعة الأزهر وأفادتني عن المعري ورسالته الغفران. أسابق الشمس المتعبة من طول النهار فرأيت (سعد زغلول) فكرهت اللقاء وآثرت العودة عن البقاء.
أفقت من حُلمي وعانقت (عشيري) بطرفي، فقلت والدمع فياض: تلك هي القاهرة التي عشقت، وتلك هي الشوارع والصالونات والمنتديات التي تمنيت، تلك القاهرة التي أعرف، والمجد الذي طال وأشرف. ساحات حرب النبلاء، ومعارك الأدباء. منها تَضَمَّخ الحرفُ الأصيل والمعنى العتيق الجديد والأسلوب الأدبي الرفيع. هؤلاء أساتذتي فأخبرني أنت عما سألتني عنه؟
فاستحيا واحتشم، فما بعد هؤلاء يُذكرُ اسمٌ ولا ينقشُ وشمٌ. وولّى وهو يقول: عليهم رحمة الله، عليهم رحمة الله.