2310






2310

ما أشد غرابة هذا الزمان! فلو كان لهذا العصر لسان البشر لصاح واستنكر وأزبد وأرعد، وساق الحجج يُسمعها ما وراء الثقلين. كلنا قد اطلع على التقرير الذي جلبَ لنا العارَ والخزي أمام الأمم، ذاك تقريرٌ بثته الوكالة الأسبوع الماضي بتاريخ العاشر بعد المائة من سنة ألفين وثلاثمائة وعشرة بعنوان (مازال بيننا رجعيون)، وقد صدقت الوكالة بوصف هذه الثلة، ولم تُلصق بهم إلا ما اختاروه لأنفسهم من صفة ومزية، بل هو عين ما ارتكبوا من جرم وما ألبسونا به من عار أمام المنظمات العالمية. تملكتني الغرابة وأنا أقلب صفحات ذلك التقرير المخزي فإذ بنفسي مني وكأنني أُلقمها لحم فأرٍ فتهرب مني وتشمئز وتنقبض، فهل لعاقلٍ أن يُصدق أنه مازال بيننا أناسٌ ما هم من البشرِ بل أحط من أبناء إبليس في المنزلة، أيعقل أن في زماننا هذا هناك من بقي ليتّبع سُبل الخرافات القديمة وينهج منهج من بادوا وزالوا أجساما وأفكارا ومعتقدات، أبعد أن ذاق البشرُ لذة التقدم والحضارة والحرية و اشمأزت أرواحهم من زُعاق القيود وعلقم السجن وحنظلةِ الانعتاق، أبعد هذا نرى بيننا ثلةٌ من المُفسدين يمارسون ويدعون إلى الزواج القديم الذي يصفونه بالمقدس، ذاك الزواج الخرافي المؤلم المشوه بما فيه من طقوس وثنية تبدأ بموافقة الأب ثم رضاه وقبوله وكأنه هو الفتاة أو رُبما قد انكشفت له حُجب ما في صدر ابنته فأصبح يعلم ما تريده وما لا تريده، وفوق هذا مازال يقبضُ النقود التي تُخَشخَش له فيقبض الثمن بعد المزايدة. مسكينة تلك الفتاة التي ضربها مجتمعها بكل أدوات الإجبار والإكراه في حضرة قاضي وشهود، مسكينة تلك الفتاة التي مُورس ضدها كل أنواع الانعتاق والتقليد والرجعية والتخلف والإجبار على ما كان يُسمى قبل زمن (العربسيون) بالزواج. كان ذاك في العصور البائدة والأزمنة الانهزامية عندما كان البشر يُعلقون الأرسان، أفنعود إليه بعد أن عشنا ردحا من الزمن في مجتمعٍ جعل قلبه كالسماء فانقشع غيمها فسطعت منها شمس المساواة والتحرر. وافجيعتنا أمام الوكالة المُعلنة للنبأ، فلك أن تتخيل كيف يتحدثون عنا وعن مجتمع مازالت الفتاة فيه تستقبل الطارق على بابها ليستأذن أباها في أن يسلبها حريتها، فتذهب معه كالشاة المذبوحة ليضاجعها ليلا وتخدمه نهاراً، فيُكبلها بهذا العَقد المُزيف الرجعي، فلا تخرج إلا معه ولا تنام إلا معه وتستأذنه في ما تأكل وما تلبس، واخزياه ياقوم، فقد رجعت الدنيا على قدر جيفة الحيوان بالعراء، لينكشفُ الصبحُ عن شوهاء نجسة قد أرمّت لا تطاق على النظر.
كانت فتاة وامرأة حرة فانحطت إلى الدرك الأسفل من السفالة والعبودية بالزواج، كانت امرأة فسقطت زوجة، لقد غفل أهلها أنهم بإحياء عادة الزواج هذه أنهم قسموا المجتمع إلى نصفين، إلى زوج وزوجة، فبعد أن حارب الشرفاء منا في دفن هذه العادة ووأدِها لأجل وحدة المجتمع ويصبح النصف واحداً بزيادة قوته وقسوة شوكته، فإذ بهؤلاء يُعيدون الواحد القوي إلى نصفين أحدهما ضعيف والأخر أيضاً ضعيف، غفل أيضا هؤلاء القدامى أنه ما اجتمع زوج وزوجة إلا كانا من نصب الحياة وهمومها، ومضارها ومعايبها، وشهواتها ومطامعها، فبدت لهما سوءاتهما حتى صار كل كبدٍ إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده.

يجب أن نُحارب من جديد هذه العادة الزوجية النتنة لتعود الفتاة حُرة أبية، تُمارس ما تريد مع من تريد ففي هذا كان سر حضارتنا (العربسيونية)، وعلينا بتلك الثلة المجتمعة فهم قلة، لنجتث نبتتهم الفاسدة حتى لا يفسدوا بقية الفتيات الصالحات، فنحن بحاجة إلى كل فتاة لمزيد من التقدم والتحضر، وبحاجة إلى كل فتاة بنفسها ويدها وجمالها وأنوثتها وجسدها، فكل فتاة تتكبل بأغلال الزواج قد خسرت نفسها أولا ثم ألحقت الخسارة بمجتمعها أجمع، فإن اقتصرت على الحمل والولادة وبقية الأغلال فمن يقوم مكانها في المصنع ومن يؤدي عملها في ساعات الراحة ومن يمتطي حصانها في ميادين الفكر والتقدم، والذي كان لها ميدانا خاليا فصالت وجالت وقادت بحنكة وذكاء مُتقد، يجب الاجتثاث فورا فإما أن يطبق القانون ويُقطع كل طريقٍ يؤدي إلى هذا الزواج المُخجل وإما فباطن الأرض لبعض الخلق أفضل من ظاهرها.


مُبررات الخطأ







سألتُ صاحبي الصحفي : لماذا هذا التهويل؟ فأجاب بكلمات مقتضبات أبانت لي عن تفكيرٍ مغلوط وتفسيرٍ رأيتُ فيه بعض الجهالة ولكنها تحوي بين حروفها الكثير من التأويلات والتي قد غفل عنها صاحبي عندما أجابني عن سؤالي بقوله: (إلي تكسبه إلعبه) هذا الجواب الحاضر والذي ما أتى إلا من سياسية مُتبَعة ودورات تدريبية حفَّظتُه، وأقول حفَّظته هذه الكلمات الثلاث. في هذا الجواب نجد وسيلة تبرير أكثر من أنها تقرير بالإضافة للكثير من المغالطات إن لم تكن كلها ولكن تجاوزناها تجاوزا.
المكسب والكسب لفظة عامة وهو حق مكتسب لكل فرد في المجتمع فمنها الكسب المادي والكسب الأخلاقي والقيمي والاجتماعي والكسب العقلي وغيرها فهناك من يريد جمع المال وهذا طَبْعي وهناك أيضا من يجمع القيم ويكسب الثقافة وهناك من يهوى جمع الفوائد وتقييد المعلومة، فهي عامةٌ عامة ولا نجادل على هذا، ولكن في عُرفِ صاحبي لا تتجاوز أن تكون دراهم يعدها عدا، ويقلب النظر بين طياتها ورموزها، بزيادةِ عدد المبيعات ومُغازلةٍ للشركات المُعلِنة. وهذا قد يحمل في بعض جنباته التجارية نوعا من الصحة، ولكننا لا نعيش في مجتمع تجاري محض، فهناك جوانب عدة لا يجب اغفال النظر عنها أخلاقية كانت أم اجتماعية ودينية، فأنت على منبر صحفي إعلامي ولست في ديوانية خاصة، فإن أردت مخاطبة الجمهور فكن على قدر ذلك واحترم عقله.
وبالعودة إلى جملة (إلي تكسبه إلعبه) ففيها تشريع لكل الطرق الممكن اتخاذها وجعل الأمر إطلاقا مهما كانت للوصول للهدف الرئيسي، فلك مُطلق الهوى في اختيار السبيل الذي تهواه والطريقة التي تريدها، لا تمييز فيها لخيرٍ عن شر، فإن حررت خبرا عن فقيرٍ أو شهَّرت بشخصية مظلومة فالأمر سواء، أو أتيت بطابع الأمانة أو تسربلت بسربال الكذب والخيانة فكذلك الأمر سواء، ولا توقُف إلا إذا توقَفت الدراهم عن الانسكاب. فهذا هو العرف المتبع- في تفسير الجُملة- على الأغلب وهذا لا يسلب الأمر حقه فهناك آخرون نزهاء أمناء أحرار لا يُبهرهم بريق الذهب ولا لمعةُ الفضة وإن أرادوها أخذوها ولكن باللعب السليم لا اللعب الأعرج، وبمنطق العقلاء لا بمنطق عبدة المال.
 ميزان الواقع المتكامل بكافة كفوفِه هو الميزان العدل لتبيان المكسب العام النهائي، فحصولك على المال لا يعني أنك جنيت ثمرة الفائدة وكذلك إن كتبت شيئا مفيدا فهذا لا يعني أنك ستصبح غنياً، فالأمر أعم وأشمل من اختزالِ العقل للنظر تحت الأقدام فقط، أيضا لا يجب أن نتعذر بـ (المجتمع عاوز كده) لتبرير أفعالنا وحماقاتنا وكذبنا وافتراءاتنا عليهم، فكم من صحفي أصبحت لُقمته وأكل أولاده تأتي من كلمةِ ظلم قالها، أو لفظةِ افتراء أدلى بها، أو سترٍ عن مكان الإبانة وإبانةٍ عن مكان الستر أو من تشهيرٍ بمسكينٍ مظلوم أو ظلمِ مسكينٍ مشهور. لا أخفي عنكم أن صديقي هذا كان يحرر الأخبار أحيانا من رسائل الواتساب.

(إلي تكسبه العبه) نعم إن كانت أهدافك راقية وقيمك عالية ونظرتك صائبة وهمتك عالية، ولنجعل المكسب الصحفي نشرَ ثقافة حقة وبناء حضارة راشدة فيها تبيانٌ للصدق وسدٌ للزيف والدجل، فربما كلمة حق منك أخي الصحفي نبهتْ عقلا نائما وأنارتْ طريقا لمُتشكك حائر تعود عليكَ أو على أحد أبنائك مستقبلا بمنفعة وثواب، و لا تنسى أن الأرزاق بيد الكريم المنان والسعي مطلوب، فأبدل إجابتك واجعلها (إلي تكسبه العبه، في رضاء الله).

صَفُّ البَعْثَرة







كن المظلوم ولا تكن الظالم
حروفٌ تتراصف على لوحات النظر
لونُها من نزيف الروحِ
يقطعُ سكينُها الجوف
فيضطرمُ الفؤادُ ويهوي
وتهوي معه التيجانُ والعروش

في غاباتِ الواقعِ الأسود
تزدحمُ مناكبُ نيرانَ الكُرهِ
حتى يكفُرَ القمرُ بالنور
ويمارسَ الكونُ معتقدات الجحودِ

في غاباتِ الواقعِ الأسود
تُمطرُ السماءُ بجثث البُغض
على قبورٍ ملْأى بالدمِ الفاسد
ترتشفُ منها الأرض وتَرْوَّى
ويَنبُت البغض ذاته من جديد

في غابات الواقع الأسود
الحقولُ مزدحمة بأوراقِ وردٍ مسموم
اللون يبدو والحقيقة تَخفى
كقاتلٍ مأجورٍ وضاء الوجه
يدسُ سيفه تحت معطفه

في غابات الواقع الأسود
كُسرت أجنحة الطائرات
تهدَّمت جسور الأنهار
ووقفَ الكون على شنقِ الحب

أوراق الصفصافِ ذَبَلت سأما
ثم سئِم الذبولُ فتلاشى
حقائقُ الحقِ العدم
وزيفُ الخدْعِ الوجود 

يا ساحق الجبابرة العِظام
ومحيي الصُلب والعِظام
اهد تائه الصحاري القفار
لبرٍ تنقطع إليه الدروب والأسفار

يا كاشف الهم اكشفْ
يا جالب الخير اجلبْ
يا قاهر الضنك اقهرْ
يا مُبدل يا مُغير

انبتْ لنا شماريخَ واقعٍ أبيض

رقصة القطط .







عندما يمارَسُ النقدُ بالأسلوب الهادف والطريقة البناءة، متلمساً طريق الهدى والحق فإنه لا يجنح بعيدا عن الصراط المستقيم والهدف النبيل واضعا نصب عينيه الصدق والأمانة والقسط والوفاء، طالبا الكشفَ عن الخلل ومكامن العجز وأساليب الفشل بكافة ما يحتويه من إمكانيات وقدرات، صافحا القصد عن إلغاء كل المنجزات المُقامة وساميا بذاته عن لغو الشيطان وإشكاليات الردود على من نصّب نفسه لمحاربة الطريق القويم والرأي السديد، فهذا يُمثل ظاهرة اجتماعية تُنبئُ عن مُجتمع مُتمدن يجمعُ مثقفين واعين وعقلاء نُجباء وعامة بُسطاء تبحث عن الحقيقة الصائبة والرأي الموثوق.
وبناء على هذا فعند النظر في نُقاد القرار العالي على مستوى الأوطان فإننا نجد أبناءً قدموا لسان الحق وقلم النزاهة ليصيغوا أفكار التقويم ويكتبوا مقالات البِناء ومعطيات النجاح وذاك حسب طول نظرهم ومخزونهم الثقافي وعلمهم بمُحدثات الأمور مع غوصهم في تجارب الماضي، فإن رأوا منكرا أنكروه أو خطأ صوبوه ابتغاء النجاة من أمواجٍ عالية والأماني لبلوغ شواطئ الأمان. فمنهم حصيف لَمَّاح وآخر ماهر أريب وثالث مُجتهد مُخطئ وكلهم التقوا عند سلامة المقصد ونقاء السريرة. وعلى هذا فالإشكال الذي يُشكِل عقبة منيعة أمام هؤلاء من الاستمرار هو التُهم التي تُكال عليهم من عموم الناس الذين لا تتجاوز نظراتهم أبعد من أنوفهم، فالعامة يعتقدون في هؤلاء نكران النعيم وجحود الولي بالإضافة إلى وصفهم بالكُفر بالأوطان، فالعامة دائما يجهلون ما وراء السُتر ولا يَمِيزون إلا ما ظهر على خشبة المسرح. فيرشقون النبال تتلوها النبال على من ينتقد شيئا لا يرونه أو من يُحاول أن يُبين لهم خيط الفجر من خيط الظلام. وعلى الطرف المُقابل في نقد القرار العالي نجد من لا يُجيد إلا التملق والتصفيق، يتغنى ويرقص على أنغام كل ما يصدر سواءً كان شرا أم خيرا، يفتقد إلى النظرة الناقدة والرأي السديد، أقام من نفسه مُهرجا يُقيم تَمثيليات الموافقة ومسرحيات الولاء المُزيف. يأكل لُقمته بلسانه المُعوَج، ودخيلته المُلتوية، ولأنه لا يملك إلا طبلا وعصا متوسطة الطول يُطبل بها فالناس يُقبلون عليه أفواجا كالفراش يقترب من النار. وليته كان يكتفي من الشرور بهذا ولكنه يرى أنه على طريق الوسطية وأنه من الحِكمة في هذا الوقت منحُ المزيد من التملق والتزلف وأن من عادى وسطيته كان مُعاديا لسيادة الوطن خارجا على ولي الأمر دافعاً لعجلة السُلطة إلى الهاوية.
لنعود وننظر في كلا الطرفين، ونُعمل عقولنا ونشحذ إدراكنا عن أيهما أقرب للشارع الحكيم وأكثر حبا وولاءً للوطن وأيهما يُحافظ على نعمةٍ نحن نرتع بين مِسْكها وكافورِها. فالمُوافق والمُطبل لا يحفظ للحق قيمة، ولا يلقي للعدل بالاً، ولا يرعى للإنسانية حُرمة، جُل همه ثمنٌ يقبضه ولقمةٌ يأكلها، فالشر في قاموسه خير، والباطل حق، والغيُّ رشاد، والظلال هداية, لا رأيا فيُتّبع ولا ضياءً فيُستنار ولا حِكمة فيُحتذا. أساطير اكتتبها أو خُرافة تُليت عليه فحفظها ورددها أناء الليل وأطراف النهار، حَجب الطمع فؤاده وأعمى بصره وطمس على قلبه. أما المُمَحصُ المُتقصي فسراجه النقل والعقل وسلاحه العلم والبحث، نَقَد فقوّم، تَبصّر فأرشد، استنكر فأصلح. يصدح بالرأي الناقد فتتهشم جماجم الهوى، ويهتف بالصدق فتنخفض رؤوس وتتحطم أصنام.
على مستوى الأفراد فالصديق من صَدَقك لا من صدَّقك وذات البيان يتنزل على كل ناقدٍ صادق ومنقود يبتغي طريق السمو، ويبقى الهدف الأسمى استمرار مسيرة الخير وبعثُ قوافل النماء، بتقويمِ كُل خلل واصلاح كل شرخٍ وردم كل هُوة، فما كل قرار من بشرٍ يلزمُ أن يكون صحيحا، وما من أحدٍ أنجبته أمه فوق النقد ولا تحته، ولن تصلح كينونة المُجتمع مالم يكن منه ناقد مُطلع أو مُقوم مُحق.
العز بن عبد السلام أخذ بلسان الحق ووقف في وجه كل ظلم وجور صدر من سلطان أو حاكم أو قاضي فذكره التاريخ على صفحاتٍ من نور، وسطّر اسمه كعَلمٍ من أعلام الدنيا، وابن العلقمي طبّل للخلافة العباسية وصفق، فجعل على بصرها غشاوة، فالتهمها هولاكو وقومه وجعلوها أثرا بعد عين.




حتى تطيب الثمرة .








داعش والدواعش، أصبحوا قِبلة الجميع بداية من السياسي الجهبذ إلى العامل المتواضع مرورا بكبار السن وتجار السلاح والوقود والبصل والحنطة، فمن أراد لسحابِ الشهرةِ أن تُصيبه ومزن العطاء أن تناله فعليه أن يضوي أمره و يُدني فكرته وبضاعته تحت ذكر أمر داعش والدواعش، وذاك أمر يسير ومُلاحظ جماهيريته هذه الأيام. فأولٌ يريد تغير مخطط الأرض وثاني يجني ثمار بيع السلاح وثالث يستغل الفرصة لإشباع نهمه من السب والشتم ورابع يُعمِمُ خبرهم من فجور وفسق بباقي الجماعات والتي تُخالف رأيه ليقتنص ما فاته في أيامٍ خلاوي. وما كل هذا بمستغرب في مجتمع متناحر متباغض مثل مجتمعنا العربي. ولكن من أعجب ما قرأت كلمات صاغها كاتبها في صحيفة الشرق قبل أيام بمنطقٍ غريب وفكرة معكوسة وهكذا يكون حال السوق إذا خلت من التجار الأمناء. بدأها صاحبها بنثر سهام كنانته والتي تتباين بين المطالبة بدورٍ للسينما وبين البحث عن نايٍ يُطرب وفتاة ترقص ثم ألصقها بقرار إنشاء أحد عشر ملعبا رياضيا وهو القرار الذي صدر مؤخرا وذاك ليعطي خطابه صبغة ملكية وقرارا حكيما، ثم أتى على داعش وأقام علاقة خيالية بين ما يفعله أبناء داعش من حرب وقتل وتكفير بالمسلمين وأهله وأناط أمر هذا التطرف إلى خلو الساحة السعودية من الملاهي والمراقص ودُور تعلم الموسيقى والأوبرا الغربية. يقول صاحبي في مقالته ما نصه (يجب أن نهتم بإنشاء المسارح والمتاحف ودور السينما والأوبرا والصالات الثقافية الفنية لنربي جيلا ثقافيا رادعا للفكر الداعشي).
بعيدا عن الخوض في وحل ما يرمي إليه صاحبنا من مرمى بعيد ولكن من العقل والنجابة أن يبحث عن حلٍ لذاك التطرف بأدوات جدية وطرق فكرية سامية لا أن يُمرر من تحت خطابه نسقا أقل ما يُقال عنه أنه (ساذج)، فمنذ متى كان المزمار والناي وضرب الدفوف و قرع الكؤوس وهز الأرداف يُزيل فكرةً ويُحل محلها فكرة أقوم أو يستبدل نهجا قويما بنهجٍ متطرف، ومنذ متى كانت ثقافات الآخر ترفع لنا رايةً أو تُحيي لنا ذكرا، ومنذ متى كانت حصون العز تُرفع على شفا حُفرة والباسقات من النخيل تنبتُ في أرض صبخة.
من ذاق طعم الدماء وانغمس في لَثقِ السفاهة والطيش ومناهج التكفير والغلو لن تُلهيه حمراء كاسية أو كأسٌ متواسية، ولن يجد الوقت ليضطجع مع معشوقته أمام دار الأوبرا المزعجة والتي تعرض ما لم يبحث عنه في مراحل مراهقته ومجونه حتى ينتظر سماعه ويده ملطخة بالدماء. ثم يا صاحبي الموقر أرجو أن تسمع كلامي وتُصغي إليه فإن كانت ثقافتك ستأتي من عزف ناي أو ريشة عود أو من نوافذ هوليود فو الله ما زادتك إلا جهلا وتلطخا في الطين وحْلا.

عندما تطرقت أيا كاتبنا إلى الأحد عشر ملعبا الجديدة والتي سُتنشأ في مدن السعودية و ذكرت أنها من أعمدة البهجة والسرور وقد تخلق جيلا مُثقفا عالماً، فقد غاب عن وعيك وأنت الذي ربما لا يُنقصك سوى مهرجانات المرح وساحات الأنس ورياض السرور بأننا ما زلنا نحلم بأحد عشر مكيفاً في مدرستنا وأحد عشر مركزاً صحياً في مدينتنا  وأحد عشر مستشفى في وطننا وأحد عشر مدرسة نموذجية وأحد عشر مركز إسعاف وأحد عشر وأحد عشر .. أتعلم يا صاحبي لماذا لم أنادي بدور السينما و الصالات الفنية التي أجْهدتَ فيها ذهنك وقلمك، فما بي من عجزٍ أو تشدد ولكن ليس لي فيها حوجاء ولا لوجاء وفي مبدئي أولويات وفي صدري أمواج تتلاطم وبين يدي شباب متحير متردد، وما أنا عليهم بوكيل ولكن للقلم أمانته وللمنبر وفاؤه وللحروف استقامتها، فإذا مُنحَت النوادي الثقافية دورها المناط بها في ساحات الشباب وشُيّدت إحدى عشرة مكتبة تزخر بكتب العلم وأوراق البيان وصفحات الثقافة وأصبحت بين مناطق المملكة منارا للهدى ونورا يُقتبس منها ثم شُجعت ثقافة الاطلاع، وأُلفت المناهج المتوازنة بين العقل والنقل، هنا سينشأ جيل معتدل لا يزيغ ولا يهلك، فدع عنك إن كنت صادقا - وهو أملي فيك – ثقافات التقليد و القفز على السلم لئلا تسقط وتنكسر الرقبة. 

أمٌ تحبنا،، وأخٌ ينبذنا،،،




أنعم الله عليّ أنا وإخوتي بأمٍ حنونة، عطوفة، فاحشةُ الغِنى وفي ريعان شبابها تحن بالفطرة وتعشق بالطبع وترعى بأمانة، أنجبت إخوة لنا كبارا، بالعمر فقط كبارا، تقاسموا البيت وملكوا الدور والأملاك بشفاعة الوقت المبكر وبتأخرنا عن البزوغ على ظهر الغبراء، فألبسوها لباسا من لباسِ زمانهم وكسوها كساءً من كسوة أيامهم وأسواقهم، وأخذوا منها ليطعموها، حتى قعدت منهم مقعد اللائذة المستجيرة من أوار العقوق وسموم الحميم إلى زمهرير البِر ونسيم البراد، فلاقت منهم رعاية مع تخبط، وحباً مع غيرة، واهتماما مع عمى، وصونا مع عجلة. فظهرت كمظهر العَرفجة وسط حديقة غنّاء أو كالعنزةِ بين قطيع الريم. استمرت بالحمل والولادة فأنجبتنا نحن الصغار فرحةً تنتشلها الغبطة فمنحتنا أرضاً هينة وسُرجاً مضيئة وبيوتا معمورة. نأت بنا من غير ذنب عن ظهر جملٍ  أصهب واركبتنا ناقةً حمراء، فنبتنا في ذات تُربة العقيدة ولكن  على غير ذات الفكر وعلى غير ذات الهوى، كانت سُرجنا تكشف لنا مساحات شاسعة للنظر والرؤية واختيار النهج، وسُبلنا تجتنب بنا مسالك الوعر العسير والشاق الشديد وتركَن بنا للسهل الهين والخاضع المُطاوع، فنبغ منا أخوة أرادوا مسك الزمام من جهة القيام بالدور الموكل بهم من بر وحنان وصدقة، مستضيئين بالعهد الجديد والنور النير، منطلقين من جذور أنشبت أظفارها في قعر العقيدة السمحة، فما أردنا إلا استبدال الثوب المطرز بالثوب العتيق، وترميم بيت الطين لعل أركانه تقوى وحائطه يتجلّد وأبوابه تتسع، فوقف لنا إخوتنا الكبار بكل مرصد وزلزلوا الأرض من تحت أقدامنا نكاية لا إقناعا، وإغاظةً لا إرضاءً، فرفعوا على رؤوس الأشهاد شعارات العهد البائد الزائل، ووصمونا بالجهل وصغارة الهمة وقلة الحكمة وزيادة الطيش وكثرة الغِواية.
أردنا نحن الشباب أن نُبادر للمقود عسى أن نعيده إلى الطريق الممهد المعبد، أو أن نبادر لنصح أو إرشاد أو مشاركة في منصب أو البحث عن منزلة، فقابلتنا جلاميد الصخور هاوية ونيران الحقد مشتعلة حتى أوشكت عصينا أن تتكسر وملابسنا أن تتخرق. أراد الكبار لنا أن نكمم الأفواه ونستسلم ونختفي عن الساحة، لأنهم شعروا أن رومي الصباح سيهزم زنجي الظلام وأن رداء الفجر سيندى وجبين الصبح سيتبدى، فخافوا على حجراتهم أن تتحطم وسُترهم أن تتمزق وينابيع أموالهم أن تجف، فوقفوا وقفةً ضد ذلك، فنادوا في منابر الصحف أن لا للشباب، وخطوا خطوط الإبعاد والتجاهل، وتكاتفت الأيادي لبناء سدٍ منيع يمنع سيول النجاة أن تسقي مزارع الشوك الأبيض. 
لم ننكر نحن جميل ما قاموا به إخوتنا الكبار، ولم نلطخ جبين الأم بالعار، ولا وشمناها بوشوم السواد، ولا فطرنا كبدها بفقد إخوتنا، ولكن لكل طريق عربة، ولكل عربة قائد، فأَزْمَعوا أَمرهم ظلما فإذ بهم إن وُلِد منا نابغة محقوه أو جاحظ أخفوه أو شافعي عيروه فالمقاعد محجوزة والهياكل مُقامة والديناصورات حية لم تنقرض. أغلقوا أبواب البيت عنا وترّسوها بالتُرسِ الضخمة والضِباب المحكمة وأرادوا أن يجعلونا تحت ردائهم عسى أن نبيت في الأحلام مغرورين أو نتخلى عن واقعنا مجبورين. خَوفُهم منا لا مبرر يسنده ولا دليل يقويه فليتهم يزيحون لنا بجوارهم مقعد ويأخذون منا ويمنحون، لنُكمل المسيرة ونتعاون للأخذ بيد هذه الأم المتأخرة لصفوف التقدم علّها ترتقي السلم الذي أعجزها منذ سنوات.  

أُمُنا أثخنتها المآسي وأقعدها الألم مُتصبرة بالنحيب وقد تجاوزتها أمهات الحي والحارة، أُمنا لا تملك من أمرها شيئا وكأنها صُلبت من خلاف، أُمنا لم تقطع أصابعها انبهارا ولم تَبعنا صغارا، أُمنا واسعة المنكب جزيلة العطاء، أُمنا رحيمة حنونة، لم تبخل بالمال الوفير، ولم تمنع العطاء الجزيل ولكن حالها مرير. فمن أجلها أيها الكبار حلوا الوثاق، وأعتقوا الأفكار، واخلعوا عنكم ما سَئم منكم، فلو أن من قبلكم منعكم ما منعتمونا لما كنتم على ما أنتم عليه.