تتفاوت المجتمعات في درجة اتقانها لعملية (ادعاء التجديد) أو ما نسميها عُرفاً
بـ (الترهيم) وهي ذات العملية التي يُمارسها الشباب على السيارات البالية العتيقة
لإضفاء نكهة العصر عليها خارجيا على الأقل، فهناك من يطمس العيب بقليل من المعجون
والطلاء وآخر يسترُ الخدش بورقةٍ من الزينة أو يسد ثغرة في الهيكل بعودٍ من الخشب،
والغاية من هذا كله هو حجب العيب عن الأعين وابداء الجمال ولو كان زيفاً، وكل على
حسب قدرته ومبلغ نقوده، وهنا يتجلى إبداع الشاب في عملية التزييف للسيارة فهو يجعلها
كفتاة ليلٍ مُعطرة من الخارج جيفة من الداخل أو كاللؤلؤة الصناعية تبرق وداخلها
خواء فالمهم هو المظهر والمظهر فقط.
المصيبة أن فعل (يُرَهم) لم يقتصر على نصب
مفعول واحد بل تعدى لينصب مفعولين و ثلاثة بل نصب المجتمع بكامله، فلا عجب أن ترى
بيننا مصانعَ عملاقة لعملية (الترهيم) ولكن لترهيم البشر وتجديد مظاهر (كبار
المسؤولين) وخاصة من الخارج بما يتلاءم مع الشارع وذوق الشارع.
المصنع منها يحوي كل الأدوات اللازمة للتجديد
والترهيم بالإضافة إلى عمالٍ أفنوا أيديهم لخدمة ذاك (المُرَهم)، وخط انتاجٍ وعملية
بلورة وتقييم واعادة ضبط واستخلاص الأفضل وعملية تسويق، كل هذا يُدار بأيدٍ ماهرة
لا تُخطيء القياس ولا تبتعد عن الخط المرسوم أو الهدف المنشود. فقط على الزبون أن يختار من قائمة الاختيارات
ماذا يريد أن يكون: كريم، جواد، عالم، فطن، إله، نبي، حكيم، متبرع، سخي، مُضحي،
فدائي، حقوقي، مُعلم، داهية، متسلط، طيب، حنون، رجل، امرأة، ثنائي القطبية، أحادي،
وغيرها. فقط يضع علامة الاختيار أمام المربع المطلوب ثم يتكفل المصنع بالبقية
الباقية من العمل، فمهما كان عور المسؤول واعوجاجه وقِلة حيلته وضحالة بديهته
وبداهة غبائه فكل هذا له مُغطٍ مناسب وساتر يُلائمه، لكي يظهر أمام العامة كالقمر
في أوجه، وكالزهر في أريجه، أو كالطائر يلمعُ بجناحيه أو كالفرس ينضح عرقه، وأليس من
أول المصانع من قال:
لو يكتبُ المجدُ أسماء الملوك إذاً ....
أعطاك موضع (بسم الله) في الكتب.
وأردف له الآخر بقوله:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
….فاحكُمْ فأنتَ
الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ……وكأنّما أنصاركَ الانصارُ.
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ……وكأنّما أنصاركَ الانصارُ.
هذا التلميع الكاذب وُجِد منذ الأزل على ألسن
المتسولين وفي عقول الضعفاء البلهاء بُغية مكسب مادي أو شهرة زائلة ولو كان الثمن
ثغرة في العقيدة أو غضب الرب، ومازالت هذه الآفة بيننا إلى هذا اليوم وستظل إلى
الغد وبعد الغد.
ولكن
هذا اليوم غاب عن أذهان تلك المصانع الآلية أن (الترهيم) يذوبُ كما الجليد تحت
مُحرِقة القيظ فيتوارى على غير خجل، وأن الزِّين المزركَشة تهب عليها عواصف الريح
فتجلو ما تحتها من ندوب وعاهات، وأن اللاصق تحت الحجب ستخبو مادته ويجف سائله ويقع
خلال الدروب الطويلة، فكم من رجلٍ خرج من تلك المصانع وأقلق آذاننا بهتافاته خلال
الشاشات، ينادي بالشعارات المُرفرفة والخرافات المُسطَّرة وما إن تزاحمت عليه
جدران الزمان حتى أضحى كورقة الخريف الساقطة، صفراء جافة مُتكسرة يحملها النمل إلى
أوكاره. وكم من مسؤولٍ لبس لباس الحرب زيفاً فتركته الأيام عارياً أمام عين
الحقيقة، وكم من مسؤولٍ تسربل بقشرة الهشاشة خداعا فلم تترك له الجلافة من هشاشة،
وكم من مسؤولٍ لبس أساور النحاس تضليلا فذابت من أضواء الصواب والصدق.
الشعب ما فتئوا ينفضون عنهم غبار الضعف
والبلاهة واستأنسوا كما يستأنس البازي إذا جلى ونظر رافعا رأسه فجلو بأبصارهم في
الأفق حتى بانت لهم بومة الفجر من غراب الليل، ورفرفوا بأجنحة البحث والاستنباط، فلم
يعد بإمكان ذاك المسؤول إلا أن يدس رأسه في التراب وتلك المصانع إلا أن تُغلق
أبوابها وتُسرح عمالها وتبحت لها عن خديعة أخرى أو ضعفاء آخرين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اهمس لي