كنتُ قبل زمنٍ ليس بالبعيد أرزحُ تحت ظُلمة
الليل البهيمِ وأسيرُ على غير ذات الهدى، حتى وإن طمعتُ بالمزيد فلا أبرح أن أسير في
طرقاتٍ أجدها عصيبة تتهاوى فيها شهب الظَلال وتأكل أطراف قدميّ الصخور وتلدغها
أفاعي الجهل، زُين لي سراجٌ على أنه نجم الشمال فتبعته، وأُوقدت لي شمعة حسبتها
الشمس، على السليقة سلمت، وبالطبيعة آمنت. ثم سار بي الطريق حتى دخلت لُجةَ وادي لستُ
من أهلهِ ولا من زواره فانهالت على رأسي الصخور صخرة صخرة.
وما كان الظلامُ ظلاماً إلا من أمورٍ جهلتُها
ثم علمتُها، أُناسٌ ملَكوا قِربَ العلم، وعلماء استحوذوا الدرس والتدريس، فسقوني
من الماءِ لا حسب ظمئي وعطشي بل جعلوه حسب أهوائهم وأمزجتهم، فجعلوا يسقونني من قِربةٍ
قطرةً ثم يصرفونني عنها، ويأتي آخر بقربةٍ أخرى فيمنحُني قطرةً أخرى ويمنع عني ما
بقي وهكذا دواليك، وما كان الماء ماؤهم ولا الينبوع في أملاكِهم ولكنهم استحوذوا
عليه استحواذا، فحازوه ومَلِكُوه. فهمتُ ما أُختير لي أن أفهمه وأعيه، وأُنتقي لي من
الشرع والحُكمِ ما وافق هواهم وتناسق مع نسقهم. هم علماء صالحون ولكنهم رَقَّشَوا
ما أرادوا من السنن والأحكام والأحاديث بنقش الذهب ووشّوه بخيوط الحرير وأبرزوه وحيدا
ثم قالوا في المنابر: هذا فقط. فجعلوا على بصري غشاوةً عن بقية باقية مخفية، ما
عنها بُد ولا إليها سبيل، فالأبواب بالمتاريس مُقفَلة والنوافذِ بالطوبِ مُغلقة،
فما وجدت هواءً استنشقه ولا مُعيناً استخبره فقد حال عنهما ظُلمة الليل البهيم
وخدعني السراج والشمعة الضئيلة.
ثم دارت الأرض دورتها، وانقلب الأمر على
عقبيه فتهدمت الجدران واحترقت أعمدة النخل والتهمت العصي الأفاعي وانشق البحرُ عن
قعره، وخرجتْ نيران اليمنِ تسوق العلمَ سوقا بلا رشاد، وكأني بعد القضبان في فلاةٍ
جرداء لا يقي من ريحها غطاء ولا يصون منها غِشاء، فرمتني بالصالح والطالح والجميل
والقبيح، وفُتحت لي خزائن الكتب في أرجاء المعمورة بضغطة زر، وجاءني الجواب قبل
السؤال محمولا على عربات السلفية حينا و العولمة حيناً آخر ثم عربات العلمانية والليبرالية
والرأسمالية والإلحادية واللاأدرية والرجعية والمدنية والشيوعية والبعثية
والنصيرية والكونفوشيوسية، عربات تتلوها عربات، رايات بلا عمد ونساء بلا أرحام
وأجساد بلا أرواح. فزادات الطين بلة واندق آخر مسمار في النعش. فتطوع أناسٌ على أن
يبثوا الشك ويزرعوا العصبية ويُبجلوا العدو ويوقدوا مسائل قد حُلت منذ قرون ولكن
لم نعلم عنها. قد ابتغيتها مُنجية فإذ بها مُهلكة.
يا قومي: ويحكم أعلماء مانعون أو جهلاء
غاصبون؟ أسلفية مُكبِلة أو ليبرالية أفّاقة؟ أقيود من نُحاس أو جسد بلا سربال؟ أهذا
يفطم اللبن والآخر يُرخص الخمر؟ أتريدونها مُقيدَة محرومة مسجونة أو باغية راقصة
زانية؟ أحرب شعواء أو سلامة مُذلة؟ أما للوسطية عندكم مسلك؟ ولا في مناحيكم مذهب؟
يا قومي: أبعد جهل ذكي مُدبر نصبحُ أمام
تعليمٍ قاتل ناكر؟ إننا جيلٌ نقوى على الإبحار في أغوار البحار والمحيطات، ولكن
أعينونا بما علمتم وبينوا لنا المُحكم من المُتشابه والظاهر من الخافي، أزيحوا
لثام اللؤم وأغمدوا سكين الغدر فنحن لا نخشى ما كنتم تخشونه فلا سلطان لنا نخاف
زواله ولا مال معنا نهاب فَناءه، ولا غوانيَ نتهيب فراقهن ولا كاسات خمرٍ نفزع
كسرهن، لن نتشدد ثم نبيع ديننا بدنيانا وأيضاً لن نتصهين لعدو هزيل يملأ أرصدتنا
بالملايين. عقولنا أصبحت مختبرات مُمحِصة لا تقبل إلا ما كان مُسددا ومحكما بعيدا
عن الأحكام المُختزَلة والترهات الهزلية والتشكيك المبتذل والدعوات الفاسقة.
كانت لكم الساحات عهداً ففرطتم وأفرطتم حتى
فقدتم الشرف والكرامة، تخاصمتم بينكم يا قومي، وإذا اختصم اللصان ظهر المسروق وقد
والله ظهر وانجلى، وفي الاتحاد قوة، وقد كنتم سواء حتى تفرقتم وإذا تفرقت الغنم
قادتها العنز الجرباء. إن بُينت المكوس ووضِحت أبواب الزكاة ودفعها الكبير قبل
الصغير وأقيم القسط على هذا وذاك فأنتم علماؤنا، وللأخرين أيضا إن أبنتُم عن حرية
شريفة في الرأي والسياسة وحداثة قويمة في الفكرة والتقدم ونبوتم بخطاباتكم عن السب
والتجريح وتبصلتُم عن الرجعية لمؤتمرات بكين ونيويورك فأنتم ليبراليوننا، فها نحن
نرى سُفنكم كلكم في عباب البحر تضطرب وقد أكلها الماء المالح وتمزقت أشرعتها فهي
غارقة لا محالة إن لم يقم منا من يُصلح الثقوب ويستبدل الأشرعة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
اهمس لي