الجهلُ الذكي والتعليمُ القاتل.







كنتُ قبل زمنٍ ليس بالبعيد أرزحُ تحت ظُلمة الليل البهيمِ وأسيرُ على غير ذات الهدى، حتى وإن طمعتُ بالمزيد فلا أبرح أن أسير في طرقاتٍ أجدها عصيبة تتهاوى فيها شهب الظَلال وتأكل أطراف قدميّ الصخور وتلدغها أفاعي الجهل، زُين لي سراجٌ على أنه نجم الشمال فتبعته، وأُوقدت لي شمعة حسبتها الشمس، على السليقة سلمت، وبالطبيعة آمنت. ثم سار بي الطريق حتى دخلت لُجةَ وادي لستُ من أهلهِ ولا من زواره فانهالت على رأسي الصخور صخرة صخرة.
وما كان الظلامُ ظلاماً إلا من أمورٍ جهلتُها ثم علمتُها، أُناسٌ ملَكوا قِربَ العلم، وعلماء استحوذوا الدرس والتدريس، فسقوني من الماءِ لا حسب ظمئي وعطشي بل جعلوه حسب أهوائهم وأمزجتهم، فجعلوا يسقونني من قِربةٍ قطرةً ثم يصرفونني عنها، ويأتي آخر بقربةٍ أخرى فيمنحُني قطرةً أخرى ويمنع عني ما بقي وهكذا دواليك، وما كان الماء ماؤهم ولا الينبوع في أملاكِهم ولكنهم استحوذوا عليه استحواذا، فحازوه ومَلِكُوه. فهمتُ ما أُختير لي أن أفهمه وأعيه، وأُنتقي لي من الشرع والحُكمِ ما وافق هواهم وتناسق مع نسقهم. هم علماء صالحون ولكنهم رَقَّشَوا ما أرادوا من السنن والأحكام والأحاديث بنقش الذهب ووشّوه بخيوط الحرير وأبرزوه وحيدا ثم قالوا في المنابر: هذا فقط. فجعلوا على بصري غشاوةً عن بقية باقية مخفية، ما عنها بُد ولا إليها سبيل، فالأبواب بالمتاريس مُقفَلة والنوافذِ بالطوبِ مُغلقة، فما وجدت هواءً استنشقه ولا مُعيناً استخبره فقد حال عنهما ظُلمة الليل البهيم وخدعني السراج والشمعة الضئيلة.
ثم دارت الأرض دورتها، وانقلب الأمر على عقبيه فتهدمت الجدران واحترقت أعمدة النخل والتهمت العصي الأفاعي وانشق البحرُ عن قعره، وخرجتْ نيران اليمنِ تسوق العلمَ سوقا بلا رشاد، وكأني بعد القضبان في فلاةٍ جرداء لا يقي من ريحها غطاء ولا يصون منها غِشاء، فرمتني بالصالح والطالح والجميل والقبيح، وفُتحت لي خزائن الكتب في أرجاء المعمورة بضغطة زر، وجاءني الجواب قبل السؤال محمولا على عربات السلفية حينا و العولمة حيناً آخر ثم عربات العلمانية والليبرالية والرأسمالية والإلحادية واللاأدرية والرجعية والمدنية والشيوعية والبعثية والنصيرية والكونفوشيوسية، عربات تتلوها عربات، رايات بلا عمد ونساء بلا أرحام وأجساد بلا أرواح. فزادات الطين بلة واندق آخر مسمار في النعش. فتطوع أناسٌ على أن يبثوا الشك ويزرعوا العصبية ويُبجلوا العدو ويوقدوا مسائل قد حُلت منذ قرون ولكن لم نعلم عنها. قد ابتغيتها مُنجية فإذ بها مُهلكة.  
يا قومي: ويحكم أعلماء مانعون أو جهلاء غاصبون؟ أسلفية مُكبِلة أو ليبرالية أفّاقة؟ أقيود من نُحاس أو جسد بلا سربال؟ أهذا يفطم اللبن والآخر يُرخص الخمر؟ أتريدونها مُقيدَة محرومة مسجونة أو باغية راقصة زانية؟ أحرب شعواء أو سلامة مُذلة؟ أما للوسطية عندكم مسلك؟ ولا في مناحيكم مذهب؟
يا قومي: أبعد جهل ذكي مُدبر نصبحُ أمام تعليمٍ قاتل ناكر؟ إننا جيلٌ نقوى على الإبحار في أغوار البحار والمحيطات، ولكن أعينونا بما علمتم وبينوا لنا المُحكم من المُتشابه والظاهر من الخافي، أزيحوا لثام اللؤم وأغمدوا سكين الغدر فنحن لا نخشى ما كنتم تخشونه فلا سلطان لنا نخاف زواله ولا مال معنا نهاب فَناءه، ولا غوانيَ نتهيب فراقهن ولا كاسات خمرٍ نفزع كسرهن، لن نتشدد ثم نبيع ديننا بدنيانا وأيضاً لن نتصهين لعدو هزيل يملأ أرصدتنا بالملايين. عقولنا أصبحت مختبرات مُمحِصة لا تقبل إلا ما كان مُسددا ومحكما بعيدا عن الأحكام المُختزَلة والترهات الهزلية والتشكيك المبتذل والدعوات الفاسقة.

كانت لكم الساحات عهداً ففرطتم وأفرطتم حتى فقدتم الشرف والكرامة، تخاصمتم بينكم يا قومي، وإذا اختصم اللصان ظهر المسروق وقد والله ظهر وانجلى، وفي الاتحاد قوة، وقد كنتم سواء حتى تفرقتم وإذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء. إن بُينت المكوس ووضِحت أبواب الزكاة ودفعها الكبير قبل الصغير وأقيم القسط على هذا وذاك فأنتم علماؤنا، وللأخرين أيضا إن أبنتُم عن حرية شريفة في الرأي والسياسة وحداثة قويمة في الفكرة والتقدم ونبوتم بخطاباتكم عن السب والتجريح وتبصلتُم عن الرجعية لمؤتمرات بكين ونيويورك فأنتم ليبراليوننا، فها نحن نرى سُفنكم كلكم في عباب البحر تضطرب وقد أكلها الماء المالح وتمزقت أشرعتها فهي غارقة لا محالة إن لم يقم منا من يُصلح الثقوب ويستبدل الأشرعة. 

2310






2310

ما أشد غرابة هذا الزمان! فلو كان لهذا العصر لسان البشر لصاح واستنكر وأزبد وأرعد، وساق الحجج يُسمعها ما وراء الثقلين. كلنا قد اطلع على التقرير الذي جلبَ لنا العارَ والخزي أمام الأمم، ذاك تقريرٌ بثته الوكالة الأسبوع الماضي بتاريخ العاشر بعد المائة من سنة ألفين وثلاثمائة وعشرة بعنوان (مازال بيننا رجعيون)، وقد صدقت الوكالة بوصف هذه الثلة، ولم تُلصق بهم إلا ما اختاروه لأنفسهم من صفة ومزية، بل هو عين ما ارتكبوا من جرم وما ألبسونا به من عار أمام المنظمات العالمية. تملكتني الغرابة وأنا أقلب صفحات ذلك التقرير المخزي فإذ بنفسي مني وكأنني أُلقمها لحم فأرٍ فتهرب مني وتشمئز وتنقبض، فهل لعاقلٍ أن يُصدق أنه مازال بيننا أناسٌ ما هم من البشرِ بل أحط من أبناء إبليس في المنزلة، أيعقل أن في زماننا هذا هناك من بقي ليتّبع سُبل الخرافات القديمة وينهج منهج من بادوا وزالوا أجساما وأفكارا ومعتقدات، أبعد أن ذاق البشرُ لذة التقدم والحضارة والحرية و اشمأزت أرواحهم من زُعاق القيود وعلقم السجن وحنظلةِ الانعتاق، أبعد هذا نرى بيننا ثلةٌ من المُفسدين يمارسون ويدعون إلى الزواج القديم الذي يصفونه بالمقدس، ذاك الزواج الخرافي المؤلم المشوه بما فيه من طقوس وثنية تبدأ بموافقة الأب ثم رضاه وقبوله وكأنه هو الفتاة أو رُبما قد انكشفت له حُجب ما في صدر ابنته فأصبح يعلم ما تريده وما لا تريده، وفوق هذا مازال يقبضُ النقود التي تُخَشخَش له فيقبض الثمن بعد المزايدة. مسكينة تلك الفتاة التي ضربها مجتمعها بكل أدوات الإجبار والإكراه في حضرة قاضي وشهود، مسكينة تلك الفتاة التي مُورس ضدها كل أنواع الانعتاق والتقليد والرجعية والتخلف والإجبار على ما كان يُسمى قبل زمن (العربسيون) بالزواج. كان ذاك في العصور البائدة والأزمنة الانهزامية عندما كان البشر يُعلقون الأرسان، أفنعود إليه بعد أن عشنا ردحا من الزمن في مجتمعٍ جعل قلبه كالسماء فانقشع غيمها فسطعت منها شمس المساواة والتحرر. وافجيعتنا أمام الوكالة المُعلنة للنبأ، فلك أن تتخيل كيف يتحدثون عنا وعن مجتمع مازالت الفتاة فيه تستقبل الطارق على بابها ليستأذن أباها في أن يسلبها حريتها، فتذهب معه كالشاة المذبوحة ليضاجعها ليلا وتخدمه نهاراً، فيُكبلها بهذا العَقد المُزيف الرجعي، فلا تخرج إلا معه ولا تنام إلا معه وتستأذنه في ما تأكل وما تلبس، واخزياه ياقوم، فقد رجعت الدنيا على قدر جيفة الحيوان بالعراء، لينكشفُ الصبحُ عن شوهاء نجسة قد أرمّت لا تطاق على النظر.
كانت فتاة وامرأة حرة فانحطت إلى الدرك الأسفل من السفالة والعبودية بالزواج، كانت امرأة فسقطت زوجة، لقد غفل أهلها أنهم بإحياء عادة الزواج هذه أنهم قسموا المجتمع إلى نصفين، إلى زوج وزوجة، فبعد أن حارب الشرفاء منا في دفن هذه العادة ووأدِها لأجل وحدة المجتمع ويصبح النصف واحداً بزيادة قوته وقسوة شوكته، فإذ بهؤلاء يُعيدون الواحد القوي إلى نصفين أحدهما ضعيف والأخر أيضاً ضعيف، غفل أيضا هؤلاء القدامى أنه ما اجتمع زوج وزوجة إلا كانا من نصب الحياة وهمومها، ومضارها ومعايبها، وشهواتها ومطامعها، فبدت لهما سوءاتهما حتى صار كل كبدٍ إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده.

يجب أن نُحارب من جديد هذه العادة الزوجية النتنة لتعود الفتاة حُرة أبية، تُمارس ما تريد مع من تريد ففي هذا كان سر حضارتنا (العربسيونية)، وعلينا بتلك الثلة المجتمعة فهم قلة، لنجتث نبتتهم الفاسدة حتى لا يفسدوا بقية الفتيات الصالحات، فنحن بحاجة إلى كل فتاة لمزيد من التقدم والتحضر، وبحاجة إلى كل فتاة بنفسها ويدها وجمالها وأنوثتها وجسدها، فكل فتاة تتكبل بأغلال الزواج قد خسرت نفسها أولا ثم ألحقت الخسارة بمجتمعها أجمع، فإن اقتصرت على الحمل والولادة وبقية الأغلال فمن يقوم مكانها في المصنع ومن يؤدي عملها في ساعات الراحة ومن يمتطي حصانها في ميادين الفكر والتقدم، والذي كان لها ميدانا خاليا فصالت وجالت وقادت بحنكة وذكاء مُتقد، يجب الاجتثاث فورا فإما أن يطبق القانون ويُقطع كل طريقٍ يؤدي إلى هذا الزواج المُخجل وإما فباطن الأرض لبعض الخلق أفضل من ظاهرها.


مُبررات الخطأ







سألتُ صاحبي الصحفي : لماذا هذا التهويل؟ فأجاب بكلمات مقتضبات أبانت لي عن تفكيرٍ مغلوط وتفسيرٍ رأيتُ فيه بعض الجهالة ولكنها تحوي بين حروفها الكثير من التأويلات والتي قد غفل عنها صاحبي عندما أجابني عن سؤالي بقوله: (إلي تكسبه إلعبه) هذا الجواب الحاضر والذي ما أتى إلا من سياسية مُتبَعة ودورات تدريبية حفَّظتُه، وأقول حفَّظته هذه الكلمات الثلاث. في هذا الجواب نجد وسيلة تبرير أكثر من أنها تقرير بالإضافة للكثير من المغالطات إن لم تكن كلها ولكن تجاوزناها تجاوزا.
المكسب والكسب لفظة عامة وهو حق مكتسب لكل فرد في المجتمع فمنها الكسب المادي والكسب الأخلاقي والقيمي والاجتماعي والكسب العقلي وغيرها فهناك من يريد جمع المال وهذا طَبْعي وهناك أيضا من يجمع القيم ويكسب الثقافة وهناك من يهوى جمع الفوائد وتقييد المعلومة، فهي عامةٌ عامة ولا نجادل على هذا، ولكن في عُرفِ صاحبي لا تتجاوز أن تكون دراهم يعدها عدا، ويقلب النظر بين طياتها ورموزها، بزيادةِ عدد المبيعات ومُغازلةٍ للشركات المُعلِنة. وهذا قد يحمل في بعض جنباته التجارية نوعا من الصحة، ولكننا لا نعيش في مجتمع تجاري محض، فهناك جوانب عدة لا يجب اغفال النظر عنها أخلاقية كانت أم اجتماعية ودينية، فأنت على منبر صحفي إعلامي ولست في ديوانية خاصة، فإن أردت مخاطبة الجمهور فكن على قدر ذلك واحترم عقله.
وبالعودة إلى جملة (إلي تكسبه إلعبه) ففيها تشريع لكل الطرق الممكن اتخاذها وجعل الأمر إطلاقا مهما كانت للوصول للهدف الرئيسي، فلك مُطلق الهوى في اختيار السبيل الذي تهواه والطريقة التي تريدها، لا تمييز فيها لخيرٍ عن شر، فإن حررت خبرا عن فقيرٍ أو شهَّرت بشخصية مظلومة فالأمر سواء، أو أتيت بطابع الأمانة أو تسربلت بسربال الكذب والخيانة فكذلك الأمر سواء، ولا توقُف إلا إذا توقَفت الدراهم عن الانسكاب. فهذا هو العرف المتبع- في تفسير الجُملة- على الأغلب وهذا لا يسلب الأمر حقه فهناك آخرون نزهاء أمناء أحرار لا يُبهرهم بريق الذهب ولا لمعةُ الفضة وإن أرادوها أخذوها ولكن باللعب السليم لا اللعب الأعرج، وبمنطق العقلاء لا بمنطق عبدة المال.
 ميزان الواقع المتكامل بكافة كفوفِه هو الميزان العدل لتبيان المكسب العام النهائي، فحصولك على المال لا يعني أنك جنيت ثمرة الفائدة وكذلك إن كتبت شيئا مفيدا فهذا لا يعني أنك ستصبح غنياً، فالأمر أعم وأشمل من اختزالِ العقل للنظر تحت الأقدام فقط، أيضا لا يجب أن نتعذر بـ (المجتمع عاوز كده) لتبرير أفعالنا وحماقاتنا وكذبنا وافتراءاتنا عليهم، فكم من صحفي أصبحت لُقمته وأكل أولاده تأتي من كلمةِ ظلم قالها، أو لفظةِ افتراء أدلى بها، أو سترٍ عن مكان الإبانة وإبانةٍ عن مكان الستر أو من تشهيرٍ بمسكينٍ مظلوم أو ظلمِ مسكينٍ مشهور. لا أخفي عنكم أن صديقي هذا كان يحرر الأخبار أحيانا من رسائل الواتساب.

(إلي تكسبه العبه) نعم إن كانت أهدافك راقية وقيمك عالية ونظرتك صائبة وهمتك عالية، ولنجعل المكسب الصحفي نشرَ ثقافة حقة وبناء حضارة راشدة فيها تبيانٌ للصدق وسدٌ للزيف والدجل، فربما كلمة حق منك أخي الصحفي نبهتْ عقلا نائما وأنارتْ طريقا لمُتشكك حائر تعود عليكَ أو على أحد أبنائك مستقبلا بمنفعة وثواب، و لا تنسى أن الأرزاق بيد الكريم المنان والسعي مطلوب، فأبدل إجابتك واجعلها (إلي تكسبه العبه، في رضاء الله).

صَفُّ البَعْثَرة







كن المظلوم ولا تكن الظالم
حروفٌ تتراصف على لوحات النظر
لونُها من نزيف الروحِ
يقطعُ سكينُها الجوف
فيضطرمُ الفؤادُ ويهوي
وتهوي معه التيجانُ والعروش

في غاباتِ الواقعِ الأسود
تزدحمُ مناكبُ نيرانَ الكُرهِ
حتى يكفُرَ القمرُ بالنور
ويمارسَ الكونُ معتقدات الجحودِ

في غاباتِ الواقعِ الأسود
تُمطرُ السماءُ بجثث البُغض
على قبورٍ ملْأى بالدمِ الفاسد
ترتشفُ منها الأرض وتَرْوَّى
ويَنبُت البغض ذاته من جديد

في غابات الواقع الأسود
الحقولُ مزدحمة بأوراقِ وردٍ مسموم
اللون يبدو والحقيقة تَخفى
كقاتلٍ مأجورٍ وضاء الوجه
يدسُ سيفه تحت معطفه

في غابات الواقع الأسود
كُسرت أجنحة الطائرات
تهدَّمت جسور الأنهار
ووقفَ الكون على شنقِ الحب

أوراق الصفصافِ ذَبَلت سأما
ثم سئِم الذبولُ فتلاشى
حقائقُ الحقِ العدم
وزيفُ الخدْعِ الوجود 

يا ساحق الجبابرة العِظام
ومحيي الصُلب والعِظام
اهد تائه الصحاري القفار
لبرٍ تنقطع إليه الدروب والأسفار

يا كاشف الهم اكشفْ
يا جالب الخير اجلبْ
يا قاهر الضنك اقهرْ
يا مُبدل يا مُغير

انبتْ لنا شماريخَ واقعٍ أبيض

رقصة القطط .







عندما يمارَسُ النقدُ بالأسلوب الهادف والطريقة البناءة، متلمساً طريق الهدى والحق فإنه لا يجنح بعيدا عن الصراط المستقيم والهدف النبيل واضعا نصب عينيه الصدق والأمانة والقسط والوفاء، طالبا الكشفَ عن الخلل ومكامن العجز وأساليب الفشل بكافة ما يحتويه من إمكانيات وقدرات، صافحا القصد عن إلغاء كل المنجزات المُقامة وساميا بذاته عن لغو الشيطان وإشكاليات الردود على من نصّب نفسه لمحاربة الطريق القويم والرأي السديد، فهذا يُمثل ظاهرة اجتماعية تُنبئُ عن مُجتمع مُتمدن يجمعُ مثقفين واعين وعقلاء نُجباء وعامة بُسطاء تبحث عن الحقيقة الصائبة والرأي الموثوق.
وبناء على هذا فعند النظر في نُقاد القرار العالي على مستوى الأوطان فإننا نجد أبناءً قدموا لسان الحق وقلم النزاهة ليصيغوا أفكار التقويم ويكتبوا مقالات البِناء ومعطيات النجاح وذاك حسب طول نظرهم ومخزونهم الثقافي وعلمهم بمُحدثات الأمور مع غوصهم في تجارب الماضي، فإن رأوا منكرا أنكروه أو خطأ صوبوه ابتغاء النجاة من أمواجٍ عالية والأماني لبلوغ شواطئ الأمان. فمنهم حصيف لَمَّاح وآخر ماهر أريب وثالث مُجتهد مُخطئ وكلهم التقوا عند سلامة المقصد ونقاء السريرة. وعلى هذا فالإشكال الذي يُشكِل عقبة منيعة أمام هؤلاء من الاستمرار هو التُهم التي تُكال عليهم من عموم الناس الذين لا تتجاوز نظراتهم أبعد من أنوفهم، فالعامة يعتقدون في هؤلاء نكران النعيم وجحود الولي بالإضافة إلى وصفهم بالكُفر بالأوطان، فالعامة دائما يجهلون ما وراء السُتر ولا يَمِيزون إلا ما ظهر على خشبة المسرح. فيرشقون النبال تتلوها النبال على من ينتقد شيئا لا يرونه أو من يُحاول أن يُبين لهم خيط الفجر من خيط الظلام. وعلى الطرف المُقابل في نقد القرار العالي نجد من لا يُجيد إلا التملق والتصفيق، يتغنى ويرقص على أنغام كل ما يصدر سواءً كان شرا أم خيرا، يفتقد إلى النظرة الناقدة والرأي السديد، أقام من نفسه مُهرجا يُقيم تَمثيليات الموافقة ومسرحيات الولاء المُزيف. يأكل لُقمته بلسانه المُعوَج، ودخيلته المُلتوية، ولأنه لا يملك إلا طبلا وعصا متوسطة الطول يُطبل بها فالناس يُقبلون عليه أفواجا كالفراش يقترب من النار. وليته كان يكتفي من الشرور بهذا ولكنه يرى أنه على طريق الوسطية وأنه من الحِكمة في هذا الوقت منحُ المزيد من التملق والتزلف وأن من عادى وسطيته كان مُعاديا لسيادة الوطن خارجا على ولي الأمر دافعاً لعجلة السُلطة إلى الهاوية.
لنعود وننظر في كلا الطرفين، ونُعمل عقولنا ونشحذ إدراكنا عن أيهما أقرب للشارع الحكيم وأكثر حبا وولاءً للوطن وأيهما يُحافظ على نعمةٍ نحن نرتع بين مِسْكها وكافورِها. فالمُوافق والمُطبل لا يحفظ للحق قيمة، ولا يلقي للعدل بالاً، ولا يرعى للإنسانية حُرمة، جُل همه ثمنٌ يقبضه ولقمةٌ يأكلها، فالشر في قاموسه خير، والباطل حق، والغيُّ رشاد، والظلال هداية, لا رأيا فيُتّبع ولا ضياءً فيُستنار ولا حِكمة فيُحتذا. أساطير اكتتبها أو خُرافة تُليت عليه فحفظها ورددها أناء الليل وأطراف النهار، حَجب الطمع فؤاده وأعمى بصره وطمس على قلبه. أما المُمَحصُ المُتقصي فسراجه النقل والعقل وسلاحه العلم والبحث، نَقَد فقوّم، تَبصّر فأرشد، استنكر فأصلح. يصدح بالرأي الناقد فتتهشم جماجم الهوى، ويهتف بالصدق فتنخفض رؤوس وتتحطم أصنام.
على مستوى الأفراد فالصديق من صَدَقك لا من صدَّقك وذات البيان يتنزل على كل ناقدٍ صادق ومنقود يبتغي طريق السمو، ويبقى الهدف الأسمى استمرار مسيرة الخير وبعثُ قوافل النماء، بتقويمِ كُل خلل واصلاح كل شرخٍ وردم كل هُوة، فما كل قرار من بشرٍ يلزمُ أن يكون صحيحا، وما من أحدٍ أنجبته أمه فوق النقد ولا تحته، ولن تصلح كينونة المُجتمع مالم يكن منه ناقد مُطلع أو مُقوم مُحق.
العز بن عبد السلام أخذ بلسان الحق ووقف في وجه كل ظلم وجور صدر من سلطان أو حاكم أو قاضي فذكره التاريخ على صفحاتٍ من نور، وسطّر اسمه كعَلمٍ من أعلام الدنيا، وابن العلقمي طبّل للخلافة العباسية وصفق، فجعل على بصرها غشاوة، فالتهمها هولاكو وقومه وجعلوها أثرا بعد عين.




حتى تطيب الثمرة .








داعش والدواعش، أصبحوا قِبلة الجميع بداية من السياسي الجهبذ إلى العامل المتواضع مرورا بكبار السن وتجار السلاح والوقود والبصل والحنطة، فمن أراد لسحابِ الشهرةِ أن تُصيبه ومزن العطاء أن تناله فعليه أن يضوي أمره و يُدني فكرته وبضاعته تحت ذكر أمر داعش والدواعش، وذاك أمر يسير ومُلاحظ جماهيريته هذه الأيام. فأولٌ يريد تغير مخطط الأرض وثاني يجني ثمار بيع السلاح وثالث يستغل الفرصة لإشباع نهمه من السب والشتم ورابع يُعمِمُ خبرهم من فجور وفسق بباقي الجماعات والتي تُخالف رأيه ليقتنص ما فاته في أيامٍ خلاوي. وما كل هذا بمستغرب في مجتمع متناحر متباغض مثل مجتمعنا العربي. ولكن من أعجب ما قرأت كلمات صاغها كاتبها في صحيفة الشرق قبل أيام بمنطقٍ غريب وفكرة معكوسة وهكذا يكون حال السوق إذا خلت من التجار الأمناء. بدأها صاحبها بنثر سهام كنانته والتي تتباين بين المطالبة بدورٍ للسينما وبين البحث عن نايٍ يُطرب وفتاة ترقص ثم ألصقها بقرار إنشاء أحد عشر ملعبا رياضيا وهو القرار الذي صدر مؤخرا وذاك ليعطي خطابه صبغة ملكية وقرارا حكيما، ثم أتى على داعش وأقام علاقة خيالية بين ما يفعله أبناء داعش من حرب وقتل وتكفير بالمسلمين وأهله وأناط أمر هذا التطرف إلى خلو الساحة السعودية من الملاهي والمراقص ودُور تعلم الموسيقى والأوبرا الغربية. يقول صاحبي في مقالته ما نصه (يجب أن نهتم بإنشاء المسارح والمتاحف ودور السينما والأوبرا والصالات الثقافية الفنية لنربي جيلا ثقافيا رادعا للفكر الداعشي).
بعيدا عن الخوض في وحل ما يرمي إليه صاحبنا من مرمى بعيد ولكن من العقل والنجابة أن يبحث عن حلٍ لذاك التطرف بأدوات جدية وطرق فكرية سامية لا أن يُمرر من تحت خطابه نسقا أقل ما يُقال عنه أنه (ساذج)، فمنذ متى كان المزمار والناي وضرب الدفوف و قرع الكؤوس وهز الأرداف يُزيل فكرةً ويُحل محلها فكرة أقوم أو يستبدل نهجا قويما بنهجٍ متطرف، ومنذ متى كانت ثقافات الآخر ترفع لنا رايةً أو تُحيي لنا ذكرا، ومنذ متى كانت حصون العز تُرفع على شفا حُفرة والباسقات من النخيل تنبتُ في أرض صبخة.
من ذاق طعم الدماء وانغمس في لَثقِ السفاهة والطيش ومناهج التكفير والغلو لن تُلهيه حمراء كاسية أو كأسٌ متواسية، ولن يجد الوقت ليضطجع مع معشوقته أمام دار الأوبرا المزعجة والتي تعرض ما لم يبحث عنه في مراحل مراهقته ومجونه حتى ينتظر سماعه ويده ملطخة بالدماء. ثم يا صاحبي الموقر أرجو أن تسمع كلامي وتُصغي إليه فإن كانت ثقافتك ستأتي من عزف ناي أو ريشة عود أو من نوافذ هوليود فو الله ما زادتك إلا جهلا وتلطخا في الطين وحْلا.

عندما تطرقت أيا كاتبنا إلى الأحد عشر ملعبا الجديدة والتي سُتنشأ في مدن السعودية و ذكرت أنها من أعمدة البهجة والسرور وقد تخلق جيلا مُثقفا عالماً، فقد غاب عن وعيك وأنت الذي ربما لا يُنقصك سوى مهرجانات المرح وساحات الأنس ورياض السرور بأننا ما زلنا نحلم بأحد عشر مكيفاً في مدرستنا وأحد عشر مركزاً صحياً في مدينتنا  وأحد عشر مستشفى في وطننا وأحد عشر مدرسة نموذجية وأحد عشر مركز إسعاف وأحد عشر وأحد عشر .. أتعلم يا صاحبي لماذا لم أنادي بدور السينما و الصالات الفنية التي أجْهدتَ فيها ذهنك وقلمك، فما بي من عجزٍ أو تشدد ولكن ليس لي فيها حوجاء ولا لوجاء وفي مبدئي أولويات وفي صدري أمواج تتلاطم وبين يدي شباب متحير متردد، وما أنا عليهم بوكيل ولكن للقلم أمانته وللمنبر وفاؤه وللحروف استقامتها، فإذا مُنحَت النوادي الثقافية دورها المناط بها في ساحات الشباب وشُيّدت إحدى عشرة مكتبة تزخر بكتب العلم وأوراق البيان وصفحات الثقافة وأصبحت بين مناطق المملكة منارا للهدى ونورا يُقتبس منها ثم شُجعت ثقافة الاطلاع، وأُلفت المناهج المتوازنة بين العقل والنقل، هنا سينشأ جيل معتدل لا يزيغ ولا يهلك، فدع عنك إن كنت صادقا - وهو أملي فيك – ثقافات التقليد و القفز على السلم لئلا تسقط وتنكسر الرقبة. 

أمٌ تحبنا،، وأخٌ ينبذنا،،،




أنعم الله عليّ أنا وإخوتي بأمٍ حنونة، عطوفة، فاحشةُ الغِنى وفي ريعان شبابها تحن بالفطرة وتعشق بالطبع وترعى بأمانة، أنجبت إخوة لنا كبارا، بالعمر فقط كبارا، تقاسموا البيت وملكوا الدور والأملاك بشفاعة الوقت المبكر وبتأخرنا عن البزوغ على ظهر الغبراء، فألبسوها لباسا من لباسِ زمانهم وكسوها كساءً من كسوة أيامهم وأسواقهم، وأخذوا منها ليطعموها، حتى قعدت منهم مقعد اللائذة المستجيرة من أوار العقوق وسموم الحميم إلى زمهرير البِر ونسيم البراد، فلاقت منهم رعاية مع تخبط، وحباً مع غيرة، واهتماما مع عمى، وصونا مع عجلة. فظهرت كمظهر العَرفجة وسط حديقة غنّاء أو كالعنزةِ بين قطيع الريم. استمرت بالحمل والولادة فأنجبتنا نحن الصغار فرحةً تنتشلها الغبطة فمنحتنا أرضاً هينة وسُرجاً مضيئة وبيوتا معمورة. نأت بنا من غير ذنب عن ظهر جملٍ  أصهب واركبتنا ناقةً حمراء، فنبتنا في ذات تُربة العقيدة ولكن  على غير ذات الفكر وعلى غير ذات الهوى، كانت سُرجنا تكشف لنا مساحات شاسعة للنظر والرؤية واختيار النهج، وسُبلنا تجتنب بنا مسالك الوعر العسير والشاق الشديد وتركَن بنا للسهل الهين والخاضع المُطاوع، فنبغ منا أخوة أرادوا مسك الزمام من جهة القيام بالدور الموكل بهم من بر وحنان وصدقة، مستضيئين بالعهد الجديد والنور النير، منطلقين من جذور أنشبت أظفارها في قعر العقيدة السمحة، فما أردنا إلا استبدال الثوب المطرز بالثوب العتيق، وترميم بيت الطين لعل أركانه تقوى وحائطه يتجلّد وأبوابه تتسع، فوقف لنا إخوتنا الكبار بكل مرصد وزلزلوا الأرض من تحت أقدامنا نكاية لا إقناعا، وإغاظةً لا إرضاءً، فرفعوا على رؤوس الأشهاد شعارات العهد البائد الزائل، ووصمونا بالجهل وصغارة الهمة وقلة الحكمة وزيادة الطيش وكثرة الغِواية.
أردنا نحن الشباب أن نُبادر للمقود عسى أن نعيده إلى الطريق الممهد المعبد، أو أن نبادر لنصح أو إرشاد أو مشاركة في منصب أو البحث عن منزلة، فقابلتنا جلاميد الصخور هاوية ونيران الحقد مشتعلة حتى أوشكت عصينا أن تتكسر وملابسنا أن تتخرق. أراد الكبار لنا أن نكمم الأفواه ونستسلم ونختفي عن الساحة، لأنهم شعروا أن رومي الصباح سيهزم زنجي الظلام وأن رداء الفجر سيندى وجبين الصبح سيتبدى، فخافوا على حجراتهم أن تتحطم وسُترهم أن تتمزق وينابيع أموالهم أن تجف، فوقفوا وقفةً ضد ذلك، فنادوا في منابر الصحف أن لا للشباب، وخطوا خطوط الإبعاد والتجاهل، وتكاتفت الأيادي لبناء سدٍ منيع يمنع سيول النجاة أن تسقي مزارع الشوك الأبيض. 
لم ننكر نحن جميل ما قاموا به إخوتنا الكبار، ولم نلطخ جبين الأم بالعار، ولا وشمناها بوشوم السواد، ولا فطرنا كبدها بفقد إخوتنا، ولكن لكل طريق عربة، ولكل عربة قائد، فأَزْمَعوا أَمرهم ظلما فإذ بهم إن وُلِد منا نابغة محقوه أو جاحظ أخفوه أو شافعي عيروه فالمقاعد محجوزة والهياكل مُقامة والديناصورات حية لم تنقرض. أغلقوا أبواب البيت عنا وترّسوها بالتُرسِ الضخمة والضِباب المحكمة وأرادوا أن يجعلونا تحت ردائهم عسى أن نبيت في الأحلام مغرورين أو نتخلى عن واقعنا مجبورين. خَوفُهم منا لا مبرر يسنده ولا دليل يقويه فليتهم يزيحون لنا بجوارهم مقعد ويأخذون منا ويمنحون، لنُكمل المسيرة ونتعاون للأخذ بيد هذه الأم المتأخرة لصفوف التقدم علّها ترتقي السلم الذي أعجزها منذ سنوات.  

أُمُنا أثخنتها المآسي وأقعدها الألم مُتصبرة بالنحيب وقد تجاوزتها أمهات الحي والحارة، أُمنا لا تملك من أمرها شيئا وكأنها صُلبت من خلاف، أُمنا لم تقطع أصابعها انبهارا ولم تَبعنا صغارا، أُمنا واسعة المنكب جزيلة العطاء، أُمنا رحيمة حنونة، لم تبخل بالمال الوفير، ولم تمنع العطاء الجزيل ولكن حالها مرير. فمن أجلها أيها الكبار حلوا الوثاق، وأعتقوا الأفكار، واخلعوا عنكم ما سَئم منكم، فلو أن من قبلكم منعكم ما منعتمونا لما كنتم على ما أنتم عليه.



خنزير العرب .







الخيانة نتنةُ الرائحة، ماؤها آسن، طعمها حنظل، تشمئز منها الأنفس السوية، وتنأى عنها كرامة العربي وتتنافى مع قيم النفس والدين. ولكنها عندما توضع فوق صحون الذهب وتُرقشُ بالفضة وتُغلف بأوراق الدولارات وتفوح منها رائحة القصور والفنادق والبارات، أو تقدم مع فتى أمرد أو بين شفاهِ شقراءَ تتورد، هنا تنقلب المعادلة وتنتكسُ الفطرة المائلة ويصبح لا فرق بين بساط أخضر أو روث بهيمة أو بين لقمة هنية و حشرة دودية، تصبح الخيانة لدى البعض معشوقة لا يقوى نكث العهد معها فيعيش عبداً لها، خادما تحت لوائها، ولكنه يبقى تحت ظلام الليل يسير متخفيا لا أحد يعلم عنه، يستر خياناته تحت غطاء السلامة، ولكن ما إن تتزاحم الفتن وتتوالى المصائب ويحتك الحديد بالحديد وتتطاير الأشلاء وينتصر العزيز لعزته والشريف لشرفه، فلابد وأن يظهروا ككائنات مقيتة بين الأرجل تحبو، فالجُعل لا يقوى أن يخفي رائحته ولا القنفذ أن يدس شوكه.
فمع أحداث غزة الأخيرة بانت الحقارة وطفت الخسة والنذالة من أشخاص ومؤسسات وحكومات ركعت ذليلة تحت أقدام صهيون، بهرت عيونها صفرة الذهب لتختلط مع سفالةٍ وحبٍ للشهوات متوارٍ في النفوس، فوقفوا مع الظالم ضد الحق حين دافع عن حقه وضد الزوج أن دحر الشر عن شرفه، يبتغونها عوجا كما هي في أحلامهم.
ما هؤلاء ابتغيت، فهم أحقر من أن ننوه عنهم، فسلاحهم تغريدة، ولكن أردت أن أعَرض بقائدهم الأكبر وشيطانهم الأعظم وسابقهم للورود لحوض صهيون والتمسح بأثواب (ماسيون).
الخائن الأعظم ابن الخائن الأعظم (فيصل بن الشريف حسين بن علي) وما هو بشريف ولا أبوه شريف بل رجسٌ حقيرٌ دنيء. تعال أيها القارئ واحكم بنفسك فهو لن يعدو عندي أكثر من نعل تركبها نعل.
بعدما أتم (الشريف حسين) خيانته ضد العرب مع الانجليز وانكشاف رسائله مع (مكماهين) والتي بدأت عام (1915) وأتمت بعدها بريطانيا اتفاقيات (سايكس-بيكو) ووعد بلفور ودخول (اللنبي) لدمشق وتقسيم الشام والعراق وسقوط القدس عام (1917) وتوالت الأفراح بـ(اللنبي) الذي حقق ما لم يحققه (ريتشارد قلب الأسد) من قبل، بحث الإنجليز عن خائن مناسب لهم ولمشروعهم الصهيوني فلم يجدوا أخون من (فيصل بن الحسين) والذي قاد الجيش المسلم ليحارب الجيش المسلم الآخر بسلاح الغرب الصهيوني من مكة وحتى دمشق. ليلتقي بعد ذلك بـ (حاييم وازمان) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في العقبة (1918) ويتم وضع حجر الأساس لصداقة طويلة بينهما بدأت بقول فيصل (إني لآمل أن تحقق كل من الأمتين العربية واليهودية تقدما ملموسا نحو أمانيهما، وإن العرب لا يحملون ضغينة ضد اليهود الصهاينة بل ينوون أن يسمحوا لهم بالعمل في فلسطين). لتتمخض هذه الصداقة الخسيسة باتفاق باريس عام (1919) بالسماح بتأسيس كيان فلسطيني منفصل عن الدول العربية تقوم فيه بريطانيا بتحقيق وعد بلفور وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهكذا بدأت المأساة حيث وقع فيصل هذه الاتفاقية باسم (مملكة الحجاز العربية).
كان رأي فيصل واضحا جداً في الصهيونية فهو يربط بينها وبين القومية العربية ويعتبرها قضية واحدة فسهل دخول مهاجري يهود سنويا إلى فلسطين ووضعها تحت الانتداب البريطاني، حيث كان فيصل يحلم بحكم استقلالي في سوريا مهما كانت ثمن التنازلات فكانت نداءاته قومية شجاعة في داخل دمشق خوارة جبانة خائنة في أوروبا أمام أسياده. لتتوالى الأحدث سراعا فبعد أن فرط في فلسطين نُهبت منه سوريا وهو كالأحمق ليوقع اتفاقية اعترف فيها باستقلال لبنان عن سوريا وتحديد حدود سوريا الداخلية، وهكذا اتضح أن الكعكة اقتسمها الأعداء تحت موافقة الأنذال.
خان (حسين) ثم تصهين (فيصل) لينكشف الستار عن خديعة لئيمة وفضيحة جسيمة وجرح غائر دفع ثمنه العرب، فقد ضاقت الدائرة من دعوة لاستقلال الدول العربية كلها لدعوة لاستقلال الشام بحدوده ثم سكتوا عن فلسطين ثم اكتفوا بالدعوة لاستقلال سوريا ثم تخلوا عن لبنان ولم يبقى لهم إلا الخزي والعار.
كان هذا فصل من فصول (التصهيون العربي) الذي بزغ منذ أول قدم صهيونية وطئت أرض فلسطين، لتتوالى الفضائح يوما بعد يوم وتتساقط التماثيل الكاذبة والشعارات الزائفة، وكانت الجوائز أن (حسين) مات منفيا مريضا وحيدا ومات فيصل مسموما في سويسرا، بعدما أقاموا (اسرائيل) وخدموا الصهيونية بما لم تكن تحلم به ولكن يبقى ما عند الله أعظم وأكبر، وأخيرا لعلنا من هذا التاريخ المرير نثوب إلى رشدنا ونعي تاريخنا ونعتبر من تجاربنا فنبني حاضرنا ومستقبلنا تحت شموع ماضينا فكم بين ظهرانينا اليوم من (حسين) ومن (فيصل).

بلسمُ الداء .








عنان الزمن قد يرخو ثم يشتد، ويد الشمال قد تأتي بالنكباء، وعيون السحاب قد تدمر ما يتساقط دمعها عليه، أوراق الأيام بيد الخلّاق، فماذا لو انقلبت ساعة الزمن، وأصبحت الوَهدة قِمة، وسقط الباسق إلى القاع. لنتخيل نفوق منابع الطاقة، وتوقف الوقود، وتعطل الكهرباء، واختفاء أمريكا، وخسوف مدينة جنيف، وخلو أبراج الاتصالات من الإشارة. لا عربات ولا إنارة ولا لحم مثلج ولا صحف تطبع ولا إذاعة تتنبأ، ولا بوظة ولا حليب للمراعي ولا أنواع الزخارف ولا غيرها، شلل تام في أقدام الحياة مع عمى وصمم في العينين والأذنين.
لا أرى جدوى في طرح سؤال هل نقوى على العيش أم لا؟ فحينها ستتغلب نزعة الحياة في داخلنا وسننجو لا محالة ونبدأ البحث عن رزقنا، والتنقيب عن وسائل الأمن، والتفتيش عن ضرورياتٍ كانت مختفية خلف تقنيات العصر الحديث. سنخترعُ وننتجُ ونبني بيوت الطين ووجار النار ومواقد الطبخ وحلقات النقاش. سنبحث في التراث عن أدوات الزراعة وأماكن النوم وطرق الري ومسالك التجارة الفكرية.
سنتخلى عن كبرياء الأنا، ونلتمُ حول موائد التكافل، سيعود العقلُ ليصب من مصبه، فلا تقليد ولا دخلاء، سنبرع في دباغة الجلد، وصنع السلاح، وابتكار صراخ التواصل في التحبير والتعبير، سنزرع ما نحصد، ونبني ما نسكن، ونجمع ما نأكل، ونُعمِّر ما نحتاج، سننفرُ من طعم الحلوى المغلّفة وأغلال الأفكار المصنعة والمستوردة أمام أقراص العسل الطبيعي وثمار الأشجار ومنتوج الجبال. سنحفر الآبار ونشرب الحق زلالا، سنستجدي الأرض ولن تبخل علينا، وسنتسامر على أضواء النجوم، ونرقب القمر ونحسب السنين وننام بصحة ونصحو بنشاط، ستقل السموم في الهواء وسيكثر الأكسجين، وستتلاشى الهوام من الطير، سننعم بعيدا عن خداع الصورة وزيف الإذاعة، ونمشي بلا سمنة، ولن نحتاج لعمليات ربط المعدة، أو القراءة البنيوية والنقد التفكيكي، سننعم بعيدا عن رسائل (قد تم الخصم من حسابك) ولن نحتاج لـ (تم الإضافة).
 سيعود البشر بشرا، والجار جارا، إن جاء الضيف برزت عادات التكاتف، وإن جار الزمن وقف الجميع مع الجميع، الكفن واحد والناس سواسية وعناقيد العنب تتدلى، ستموت جرائم الحسد وتُغلق سجون المكر وتذوب قيود المادية ويتلاشى استبداد المستبد. هَمُّ الحياة سيتقازم مقتصرا على حاجة النفس وسد الرمق والنجاة ببقية الروح، ستقصر عنا المادة لا محالة و لكننا سنحلق بالروحانيات والفطرة السليمة.
ما بنا؟ هل هو الحنين للماضي؟ أم الشوق للنفس؟ لماذا نشتاق أن نعود لجمال الماضي رغم قسوته؟ لماذا سئمنا تشوه الحاضر رغم رقته؟ أنحن بحاجةٍ لنعيش لحظات مع سمو النفس؟ أم نحن نحتاج للسمو بالوجدان؟ هل فقدنا أرواحنا داخل زحام ماديات الحياة؟  أليس في الإمكان الجمع بين المادة والروح؟ أليس بإمكاننا التحلق حول ضوء يجمع النور والدفء من غير لهبٍ يُحرق أو خفوت يُعتم؟
ما هو إلا حنين لراحة النفس ولجلاء الكدر فالروح والمادة ليستا متناقضتان تماماً، فهما دائرتان متداخلتان في جانب كبير من جوانبها، ولا تنقصنا الثقافة التي تجعلنا نمارس فطرتنا الروحية بداخل أجساد المادة الحضارية. فهي تعاليم لا تتنافى وأن تُمارس في عصر ما بعد النهضة أو ما بعد الحداثة أو ما بعد الخزعبلات  الفلسفية والمصطلحات الجامدة، هي تعاليم تحتاج فقط إلى ميدانِ عمل، فنزعة الخير موجودة بداخل كل نفس، ونزعة الشر كذلك، وما يذكي هذه ويطفئ تلك إلا مقدار انكفاؤك على ذاتك وزهوك بنفسك والعيش في أبراج مشيدة على أكوام الوهم والكبر والغرور.

لننهض ونأخذ من الماضي جمال صُوَره وصباح أنهاره ولمعان مجتمعه ونحيطها ببرواز مطرزٍ بتقدم الحاضر، ومَلاحة نعمه، ووسامة رخائه، ونصنع منها ترياقا يقي من أمراض العصر وهوان القلب و جفاء الفؤاد، فبهجتُنا بأيدينا، وسلمُ عزنا يبدأ من داخلنا، فقط لو بنيناه بخبرةِ حاضرنا ومتانة ماضينا.

نِجمة العوضي .







نجمة في السماء صغيرة تتلألأ، تغشاها سحابةٌ سوداء لعلها تحجب ضوءها، يخترق شعاع النجمة غمام الحقد والكراهية والعنصرية المقيتة والحرية المكذوبة والعلمانية المُخادعة والليبرالية المزيفة.
(نِجمة) السويسرية، أرضٌ طيبة مُنعت الماء، ونبعٌ صافي جُففت منابعه، وكتابٌ مزقت أوراقه، لا لأنها حملت السلاح أو باعت المخدرات أو منحت نفسها في شوارع البغاء، بل لأنها تحجبت فقط.
أخبرتنا (نِجمة) أن الحرية العالمية مسجونة ومغلولة العنق بأغلال تقول بأنه لا حرية لأعداء الحرية، وأنها محصورة فقط في معاني (الأخذ) مقتصرة عن معاني (العطاء)، وأخبرتنا أنه انبّح صوت (مونتيسكيو) وهو يصرخ بأن الحرية هي فعل كل ما لا يضر الغير، ولكن لا جدوى! فمن إذن صنع الحرية؟ ومن صنف أعداء الحرية؟ ومن جعل لها أعداء منذ البدء؟ ومن منع الحرية؟ وكيف تُمنع وهي حرية؟ تناقضات في المعنى والأسلوب والتطبيق مع جهل مطبق وتقليد أعرج ونفخ في أبواق الخذلان والانهزام.
شُكلت الحرية كتنينٍ ينفث النار ليحرق العقل والضمير غَطَّاه قالب طريف لطيف أنيق يفوح برائحة العنبر ويقطر منه الشهد مصفى، ولكأنه جنة الدجال وناره . ثم بعد أن تمت عملية التشكيل هذه وأصبحت جيفة مُعطرة فُرضت فرضا على الموائد المنمقة، على أن يُعاقب من تَرُده نفسه عن التلذذ بها أو حتى استنكارها والكشف عما بداخلها. غصبٌ وجورٌ وحُكم الغاب وتسلط القوي الذي ما أصبح قوياً إلى بضعف الضعيف وهوانه على نفسه.
أنت حر التفكير و حر التعبير دعائياً، مقموع العمل ذليل المقام واقعياً، ولا يمنع ولو وصل الحد إلى السجن وقطع الرزق تحت نفس المسمى و  ذات الديباجة، هذه هي الحرية المسيسة والليبرالية الموشومة كما أسماها الدكتور الغذامي.
الفكر والمعتقد الحر بدلالته وتعريفاته الحقه قد ماتت منذ زمن واستُبدلت بنموذج مزيف مخادع من تلك اللحظة التي طغت فيها العولمة والتفَّ الذراع الأمريكي حول كوكب الأرض. فأنت حر حسب النموذج المرسوم فقط، وحسب المصلحة الغربية المسيطرة على قواميس المصطلحات وحتى كراسي القادة، فإما أن تكون تحت ظِلالي ولك النسيم البارد والشربَة المنعشة أو فكن تحت شمس الصحراء القاحلة ومت لوحدك .
مع (نجمة) والدكتور العوضي في برنامجه (بيني وبينكم) أضاءت في رأسي شمعتان وارتسمت بسمة، فالشمعة الأولى اتقدت حسرة وندامة مع قليل من الرحمة على من لايزال يرفع لافتة الحرية المنسوخة نسخاً من الحرية الغربية الموشومة والمسلوخة سلخا حتى بدت عورتها أمام الجميع والتي تهشمت هي ذاتها في شوارع اسبانيا وبريطانيا عام 2011، أما علموا أن الزيف انكشف والظلام انقشع وقناع الكذب وقع، وأن آذانا كانت تسمع وتصغي قد نظفت وارتقت وما عادت تهوى نعيق الغربان. الفكر الحر يمنع الحجاب، الفكر الحر يقتل بغداد، الفكر الحر يَنحرُ في بورما، الفكر الحر يَسرقُ الأموال، الفكر الحر كفٌ مقبوضة تسحقُ العالم.
أما الشمعة الثانية فزيتها من تجاهل إعلام الإسلام عن تلك القضايا والمعاناة والمشابهة لمعاناة (نجمة) والتي لم يمسح دمعتها أحد ولم يربت على كتفها صاحب قلب، قتلوا البراءة بسكين الطغيان وألقموها حرمان على الحرمان. يا ترى لو أنها (مسيحية) ومُنعت من أقل ما مُنعت منه (نجمة) المسلمة فماذا سنقرأ على (التايمز) وماذا ستتحفنا به (نيويورك تايمز) عطفا على ابداعات (الوطن) و (الجزيرة) و(العربية). سيوف مسلولة، وأسهم مسمومة، تنطلق من الأخ لتعود لذات الأخ، أما للغير ففي انتظار الإذن من (العمة). ثم بعد هذا التجاهل المتعمد والتغابي المقصود والتهميش المدروس ينادون بنبذ العنصرية ويرفعون شعار لنكن أحباء الله ننشر المحبة بين اجناس البشر. و (نجمة) أوليست من البشر؟

أما الابتسامة، فعلى مر الزمان ما مُنع حق وعُسِّر عليه و ضاقت الحلقة حتى استحكمت إلا ويأتي الفرج كغيث السماء، مهرولا يغسل الأدران ويروي القلوب. فمنذ زمن نوح وموسى وعيسى ونبينا الكريم والمؤامرات تُحاك والضغائن تستتر ثم تنجلي فما انطفأ ضوءٌ لحق ولا انتكست راية إلا لباطل. واليوم إن قلَّبت أوراق الحرية والإلحاد والعلمنة والحروب والسياسة والاقتصاد والأخلاق والفن بعينِ الناقد العادل لتجدها فقط وفقط ضد الإسلام، وأنا وغيري نعلم يقيناً ما نقول، والله متم نوره ولو كره الكافرون. 

خارطة طريق .







سُحقت اليابان لترضخ بعد الهزيمة لكل شروط المُنتصر وبنود الاستسلام المفروض والجلوس تحت طاولة الانكسار والموافقة على كل الشروط ولكنها رفضت ورغم هزيمتها الشروط التي تختصُ بالتعليم واللغة والثقافة... قالت اليابان للغرب : نعم انتصرتم علينا عسكريا واقتصاديا ولكن لنا تاريخنا الذي لن يُسلب، ولغتنا التي لن تُحرَّف، وثقافتنا التي لن تُبدل.
هاتان قنبلتان نوويتان أهلكتا حتى النور ولولاهما لما كان الاستسلام استسلاماً ولا النصرُ نصرا. ولكنهما اصطدمتا بصخرة حُكومة شعارها الإباء والشرف و ترتكزُ فيه على شعبٍ يعتز بقيمه ومعتقداته الثقافية والروحية وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي.
أما في المجتمعات المهزوزة والشعوب المقهورة فيكفي أن يدخل بينهم مستشرق متخفي كأمثال (رينان) أو (جولد تسيهر) أو (سنوك هُرْخرونيه) ليغتصب ثوب العروبة ويُمزقَ حُجب المجتمع المُغلق ويقلبَ موازين الفكر ويعكسَ اتجاهات المُعتقد و يُمَرغَ انتظام المعرفة، ويجعل الوطن كله كقاربٍ محطم تأخذه نسائم البحر وتموج به قطرات الماء. وتبعاً لهذا فَشِلَ الأغلبُ من العقلاء في كبح جِماح الشك الذي تسلل إلى لُبِّ الجهلاء فهشم معه رأس العقيدة و مازج بين الحاجة والشهوة فأثمروا عن ظلمات بعضها فوق بعض وجهل يُطبق على جهل.
هو الموت الثقافي الذي سهل لهم انسلاخنا التام عن كل ثقافتنا المُكتسبة مع مرور القرون الماضية حتى أمسينا كالمسخِ المُشوة لم نُبقي من ماضينا غِطاء ولا أخذنا من حاضرنا وِطاء، وعزز من أزمتنا هذا الثراء الحكومي الفاحش الذي أنتج شبحا اقتصاديا تنخره سوسة الفساد والعبث، فالمال مع موت الثقافة قتل مجتمعٍ ووأدُ أمّه.
الثقافة ليست علماً نتعلمه بل هو محيط يحيط بنا وإطار كبير شامل نتحرك بداخله ويشمل أخلاقياتنا وقيمنا الاجتماعية بل هو الحبل السري الذي يربطنا بالحياة، ومن الثقافة تتولد الحضارة الذي يتركب منها التاريخ.
ذكر (مالك بن نبي) أن أزمة العالم الإسلامي لم تكن أزمة وسائل وإنما أزمة أفكار، وعندما نتعمق في هذا المعنى نجد أن الكثير من تضعضعنا في مجالات الكون هي فعلا أزمة أفكار تتعلقُ برقاب النُخبة الثقافية في البلد، فالمثقف الأمين يجب عليه أن يدفع بدماء النشاط في جسد الفكرة التي يحافظ عليها من المُضي في طريق اللهو والعبث الصبياني، فإن سارت الأفكار النخبوية في هذا المسار العبثي فستجر معها الأجساد لذات العبث والمجون. وفي ذات السياق اختصر (محمد الغزالي) هذه الفكرة في قوله (الفقر فقرُ أخلاق ومواهب، لا فقر أرزاق وامكانيات) وهو هنا يعزف على ذات الوتر وذات النغمة، فنحن لا نريد شابا غنياً يركب أغلى السيارات ويرمي النفايات في الطريق، ولا ساكن القصر يزدري عامل النظافة، ولا حماراً يحمل الشهادة، ولا ببغاء تردد الشبهة، ولا مثقفا بيته السفارة، بل تكاملا مجتمعيا أخلاقيا تربويا فكريا.
إن اتفقنا أننا تحت اقدام مشكلة ثقافية فمن الغباء والمخاطرة في آن واحد أن نقتبس حلاً من خارج محيط هذه الثقافة ثم نرجو لها الشفاء التام والصحة الكاملة، فلدينا امكانياتنا وأفكارنا التي يجب تحريرها من أغلال التبعية المقيتة وسجون الاستهلاك الحيواني، فتوماس مكولاي البريطاني يقول (إذا أردنا قهر بلدٍ فيجب أن نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته وثقافته وتراثه الروحي)انتهى. فاللغة هي طريقُ الإيمان والثقافةُ سلمٌ لصناعة التاريخ والتراث الروحي شعلةُ هذا كله. ثم يجب لأفكارنا أن تتحقق ولثقافتنا أن تُفهم وبصورة عملية من غير شعارات مجلجلة ولوحات معلقة وأساطير مزخرفة، فالفكرة إن لم تُمارَس والثقافة إن لم يُعمل بها فستبقى كأرض حطباء لا أثر نافع ملموس.

وأخيرا أهمس في أذن وزراء التعليم والثقافة: أن في البلد طرقا عدة ومسالك جمة وأغصان وارفة وينابيع غزيرة فعليكم أن تكتشفوا طريقا نتصدر به مواكب الإنسانية ونسلك فيه مسالك القدرة على مصارعة الحياة وأغصان تنجينا من ازدواجية المتناقضات وينابيع ترتقي بنا لاختيار طريق الجدية في احترام النفس والأخذ بمعطيات العصر وبناء الثقافة الشخصية والرفعة بالقناعة الفكرية المصاحبة للدليل والوثوق بدين نعلم شموليته ونعلم تاريخه الناصع. 

من أجلك حائل .






مدنٌ تأن تحت وطأة اللامبالاة، وبلادٌ تفتقر الحياة من جراء الكسب الشخصي، وطرقاتٌ تنزف جراحُها تحت مشارط العبث، مباني ضخمة فوق أعمدة من هَباء، إن عاجلها الزمن أضحت غباراً منثورا. مستشفياتٌ مقابر، مدارس أكواخ، طُرق مجاري، حدائق مكبات قمامة، نوادي معاقة، أحياء ميتة، مكتبة مقطوعة من خِلاف.
هذا الواقع القاتل والمرأى المشين والصورة الباهتة لحياة نعيشها تحت أصداء التصفيق والتصفير وشعارات (عاش المسؤول) ورفع (البشت) ولعق الرخام مع استئصال شقفة لسان الصدق ووأد كلمة الحق والتفاخر بالعبودية.
في بلادي (حائل) وردةٌ سُرق رحيقها في وضح النهار واستُل لونها فأضحت كما الخِرقة، ونخلةٌ مثمرة اجتُثت من جذورها ظلماً، وسحابٌ ماطر مُنع القطر، وثكالى حُرموا حتى الأنين. كُممت أفواه لتنعق أفواه، نُسفت الجبال الشامخة فأضحت قتاماً، وشُيدت الأصنام الراضخة فأصبحت إشراقا. لم يعد ( الذر يقرُص) فحسب، بل وله مجلس ومُتكئ، ويُزار وإليه المُلتجأ، استحوذ الدلال المسكوبة والنوقَ المنحورة والصور المرفوعة والدعوات بإطالة ليله المُظلم الذي يستتر تحته كل خفافيش النهب .
العجز في إقامة النظام الذي بلغ حد الشلل التام، حتى في ردم حُفرة طريق بسيطة أو إنارة مصباح مُحترق، أو إصلاح انبوبة صرف مهترئة أو فتح مجرى سيل مُختنق أو انقاذ حياة أناس بسطاء، كل هذا وبقية الإجراءات القائمة تكشف عن عجز مُخيف في التعامل مع تقلبات جو عاجلة أو حويدثٍ طارئ.
كل ما يطلق عليه إدارة حكومية في بلادي (حائل) أضعف من عجوز عاجزة فقدت الابن والزوج والقريب، فالهياكل المُقامة والمُوكل إليها بالتنظيم أنظمة أنانية، عطشى، جائعة، نهِمة، لا بطن فيشبع ولا عين فتمتلأ، أمست واجهة تتملق لرفَاه المحظوظين والرعاية بأصحاب النفوذ وتلبية مكتسبات الأغنياء ومقدراتهم والسهر على المزيد من الفساد و التلف والخلل. أما نحن (الطبقة المنكودة) وذوي الاحتياجات المسروقة فلا نشُم إلا عفن التخلف الذي خلفه الوجع وأبقته الخيبة ومنحه انقطاع الأمل. نهرول صباحاً نبحث عن ماءٍ في مسجد، ثم نعود فلا ندري أمركبات نستقلها أم حميراً؟ أطرقات للبشر مرصوفة نسير عليها أم دروبا للكلاب الضالة؟ الأراضي البيضاء لذوي الحظوة والسور (المشبك) يلتف حول عنق البسيط، والقصور تُشيدُ في الشمال من خزانات الضعفاء والمساكين.
في بلادي (حائل) الحدائق منمقة وملمعة فقط في الصحافة المتسولة أما واقعها فلا يتجاوز أن تكون إلا وكأنها قاع صرفٍ صحي ومكبات للنفايات، فقيمة البرميل الأصفر أجدر أن يكون في جيب أحدهم من أن يُوضع في خدمة الصالح العام.
في بلادي (حائل) مستشفى الملك خالد – رحم الله الملك خالد- والمستشفى العام مات منذ أعوام. والله أن قَصَّاباً في سوق اللحوم لهو أمكن من طبيب الجراحة بل وسكينه أحد وأسرع نفوذا في الجلد. ولَـ (طلحةٌ) في (الشعيب) أقوى على ستر المطر من سقفٍ في جامعة حائل .
لم أتقوقع بداخل صدفة وأنسج الأحلام مسترسلة، بل واقع عشته، ومرارة ذقتها،  فدماء قلبي ما زالت تلطخ دهاليز الطوارئ منذ سنتين، وأعتذر فلم أملك الوقت لأعود بمُطهر وخرقة لأنظف ما جنت يديّ. نتساءل لماذا لا يتدخل من يحل المشاكل ويعالج الموت ويقي من الانهيار النفسي؟ فيمنع من الانتحار والغرق في آبار النفط. فالحوادث تكشف الكثير عن مسؤولٍ عالي ولكنه هزيل ومشوه، والشلل هو كل ما تبقى لمجتمع مكلوم وبنية مريضة ستؤدي بالخوف والخيبة نحو الاحتقان. فالنتيجة الكونية التي لا ينكر قدومها عاقل ستؤدي إلى مزيد من الاحتقان وإلى ثورة ضد كل أطياف المؤسسة الإدارية فها هي الشاشات الصغيرة تنتفض هادرة بحناجر الاحتقان ورافضة للواقع القائم التي أصبحت أساليبه وقراراته تقليدية مطبوعة بطابع واحد وهو العجز عن طرح الحلول بالإضافة إلى العجز في استيعاب المتغيرات.
لا أحبذ البكاء من دون اقتراح، ولا النحيب كما العاجز، ولأننا تحت سلطة إدارية تريد امتيازاتها وعدم التخلي عن طرف الخيط، فلتبقى كما هي على كرسيها العاجي ولها امتيازاتها واعطياتها المعتادة، على أن تُلقي بالمهمة على مجلس إدارة مستقل برئاسة مدير تنفيذي طموح له استقلاليته عن الحكم المركزي وله كامل الصلاحيات، ويكون من ابناء المنطقة يعلم ما بداخلها ويدري طبيعتها واحتياجات مجتمعها وافرادها ضمن التقاليد المتعارفة والعادات المعتادة، فيكون هو (الرئيس الإداري) صاحب استقلال جزئي عن (أمير المنطقة) ومسؤول مسؤولة كاملة عن كل شاردة وواردة.
لا عيب في فكرة ولا صعوبة في تحقيق، إلا في قاموس الحمقى والأغبياء والعجزة فربما سُنة حسنة تُسن، وفكرة غائبة تُطرح، تكون مثل الدواء الشافي والشفاء المداوي من كل علل وأمراض مدننا العتيقة التي تُبحر فوق بحار من الزيت، فقط لو أُعطيَ الخباز من خبزه.



بندر الأسمري